بقلم أحمد الفيتوري _
قال صاحبي التونسي، وكنا نتمشى في شارع الحبيب بورقيبة خلال الأسبوع الماضى: «إذا عطست طرابلس تصاب تونس بالرشح»، اعتبرت جملته لحظتها مجاملة لصديقه الليبي. لكن لأنني أُقيم بالقاهرة التي أحب، وتشدني تونس إليها منذ الصبا، تأملت القول ليكن مجاملة لكنه ينضح أيضاً بغير ذلكم، فطرابلس الاسم الروماني معناه المدن الثلاث باللاتينية، المدن ما أسسها الفينقيون: أويا «طرابلس» الحالية، وغربها صبراتة، وشرقها لبدة شرقها. كان ذلك عقب سيطرتهم التجارية البحرية على المتوسط عقب هجرة فينيقية إلى شمال أفريقيا وإسبانيا فتأسيس «قرطاج» تونس الحالية عنذئدٍ عرف الإقليم بالدولة القرطاجنية.
الجغرافيا تقول، ما نتناسى، إن تونس وغرب ليبيا إقليم واحد، كما جيبْ في جنوب بحر المتوسط شمال بحر الرمال «الصحراء الكبرى» ما تقوله الجغرافيا ليس بمستطاع التاريخ نقضه. لذا فمنذ بدء التاريخ كان حال طرابلس من حال تونس وفي حديث التاريخ كان حال تونس من حال طرابلس بغض النظر عن نظرة البشر، ما كثيراً يأخذها الهوى إلى ما تهوى متناسية حقائق الجغرافيا الساطعة بتأليف غطاء تاريخي كما الغربال ما لا يغطي الشمس.
شددت الرحال، عقب ثورة فبراير 2011، إلى تونس ثورة الياسمين حينها، ما كانت بمثابة عاصمة الربيع العربي، في الشارع الحي، وأروقة النخب الشبح!، كل من قابلت، يحتفي بثورة فبراير، ما يرون أنها المنقذ للثورة التونسية، من براثن «القذافي» وقدراته على التخريب. لعل في اللاوعيهم، غزوة «قفصة» نهاية السبعينات، ما قام بها «القذافي»، حيث جيّش تونسيين عاطلين، وحتى السجناء منهم، في سجونه. بطبيعة الحال، أن قدرته تلكم، ليس بحكم الثروة الليبية فحسب، ولكن أس المقدرة، المسكوت عنه، الجغرافيا، ما أشرنا إليه، التي تكون المركب السهل، في البحر، وتكون سفينة الصحراء أو شبهها.
منذ ذاك شكلت طرابلس، المختنق لثورة تونس، وحتى الساعة، بعد أن غرقت طرابلس في الفوضى، نبوءة «القذافي» في كتابه الأخضر، حيث قال: «عقب انهيار الجماهيرية تعم الفوضى!»، ولم يكن قولاً، بل مهد له لأربعين حولاً ويزيد، في جماهيرية ازدهار الخراب العظمى. وقد توج فعله هذا بإعلانه حرباً مسلحة بالثقيل، ضد المظاهرات السلمية، والحرب الأهلية التي أشعلها «القذافي»، ولم تنطفئ بعد شرارها، بالضرورة الجيو سياسية والسيسولوجية، انتقل إلى تونس شرق الإقليم، ما جزء من عروشها «قبائلها»، يمتد في غرب الإقليم «طرابلس»، وما جزء من اقتصادها، يرتكن بالضرورة، على ثروة ليبيا «نفطها»، وهكذا التداخل بَيِّنٌ بينَ الاقتصاد الاجتماعي الليبي والتونسي، ومن ثم الاقتصاد السياسي، فكيف لتونس، الفكاك من غصة طرابلس، وليس عطستها فحسب؟!
شاء «الغنوشي»، كزعيم للتيار اليميني المتطرف، الملتحف برداء الدين، أن يوظف غصة طرابلس، للاستحواذ على السلطة في تونس، فيما حرص على دعم صنوه في طرابلس، وأبى «السبسي» زعيم اليمين الوسط، أن يدرك: أن عصبه المعطوب في ليبيا، حين صرح بأن «درنة»، شرق ليبيا، جغرافيا مشرقية، ليست متعلقة بتونس المغربية، كان «السبسي»، يلبس جلباب أبيه «بورقيبة»، وفي ظنه، أن العهد في مشرقه، عهد «عبد الناصر» الخصم القوي!. أما «السبسي» فذهب في غيبوبته وأما «الغنوشي» فذهب في غيه، لقد تجاوزت الأحداث كليهما، ومن هذا تتفاقم الأزمة التونسية، مع تفاقم وضع طرابلس، فصاروخ قصير المدى، بمكنته قلب وضع قرطاج، خاصة أن «الجزائر» تخوض حرب التحرير مرة ثانية، بعد أن اجتاحها الربيع العربي في موجته الثانية، ولم تطبب بعد، العملية الجراحية الباهظة، للعشرية السوداء.
أما «طرابلس/ ليبيا» المنسية، المتناسية شرقها، تزداد نيرانها اشتعالاً، بالبنزين التونسي، الأزمة المتفاقمة، كما لم يفدها البتة أنها خط أحمر، عند الجزائر من تُصدر أزماتها، وهذه المعطيات جملة تدغم أزمة تونس بحرب طرابلس. الحرب التي يؤججها ويجعلها مشكلاً دولياً، التدخل التركي السافر، المصدر الرئيس لتصدير الحروب، المقنعة بالتنافس السني الشيعي!، وأيقونة ذلك أن أسطنبول عاصمة الرجل الميت!، محج كل من «الشيخ راشد الغنوشي»، رئيس مجلس النواب التونسي، والنائب الليبرالي فائز السراج، رئيس المجلس الرئاسي الليبي!.
وأما تونس المأزومة، من أثر الربيع العربي، ما لم يؤتِ أكله بعد، فإن شعبها يعاقب نفسه، حين يجعل الصندوق فارغا، ليملأه اليمين المتطرف، ويعاقب نفسه، لأنه لا يدرك، أنه يعيش عصر اضمحلال النخب، وأن الماضى ولى، فولي هذا الماضى مهمة المستقبل، اتحاد الشغل الزمن الجميل، ذكرى ليس إلا. كما لم يدرك حتى التو، أن عاصمته الثانية «طرابلس الغرب» تحترق، فالجار ما لم تطفيء حريقه يحرقك، تكالبت المهام المسفوحة، على كاهل التونسي المثقل، من يترك مهامه للتاريخ لينجزها، التاريخ ما تتقد نيرانه، لحظة «انتقام الجغرافيا» المنسية.