تنطلق السياسة الإماراتية في علاقاتها مع الدول من رؤية مستقبلية تستشرف فيها حجم التحديات والمصالح التي يمكن أن تكون المعيار الحاكم في ترسيخ علاقاتها الخارجية. وتستفيد الإمارات في هذا من سلسلة متنوعة من الدبلوماسيات، في مقدمتها «الدبلوماسية الاقتصادية» لبناء «علاقات متوازنة»، وفق منهج «المسارات المتوازية» التي تسمح للإمارات بالعمل مع الجميع، وفي كل الاتجاهات في وقت واحد.
هذا ما توضحه النجاحات الإماراتية في منطقة الخليج، والعالم العربي، وكافة ربوع المنطقة والشرق الأوسط، بعد أن قام صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، بزيارة إلى تركيا في 24 نوفمبر الماضي، وزيارة سمو الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان مستشار الأمن الوطني الإماراتي، إلى إيران في 6 ديسمبر الجاري، وزيارة سمو الشيخ عبدالله بن زايد وزير خارجية الإمارات والتعاون الدولي، إلى دمشق التي جرت في العاشر من نوفمبر الماضي.
وترسيخاً لدبلوماسية مد الجسور وبناء الشراكات وتعظيم المصالح وإرساء قيم السلام والاستقرار والتسامح والصداقة بين الشعوب، جاءت زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو إلى الإمارات، والتي جاءت قبل أسابيع من الزيارة المقررة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الإمارات في فبراير القادم، وفق ما نقلت وكالة أنباء الأناضول التركية الرسمية عن الرئيس أردوغان. فما دلالات ومعاني زيارة وزير الخارجية التركي الإمارات؟ وكيف يمكن البناء عليها في تعميق أواصر التعاون والشراكة ليس فقط بين الإمارات وتركيا، بل بين مختلف الدول العربية وتركيا؟
زيارة فارقة
المشهد الإماراتي التركي الحالي هو أحد ثمار زيارة سمو الشيخ محمد بن زايد لتركيا، حيث شكّل النجاح الكبير للزيارة، والحفاوة الكبيرة التي قوبل بها، والاتفاقات الاستراتيجية التي جرى التوقيع عليها، بداية جديدة وعنواناً عريضاً لتأسيس مرحلة مختلفة في العلاقات الإماراتية التركية تقوم على اكتشاف مساحات واسعة، وآفاق بعيدة واستراتيجية، وتعاون مستدام.
الرئيس أردوغان وصف هذه الزيارة يوم الثلاثاء، الأول من الشهر الجاري بأنها «تاريخية»، وترسم معالم مرحلة جديدة من التعاون مع الإمارات عندما تحدث عن زيارة سمو الشيخ محمد بن زايد قناة «تي آر تي1» التركية بالقول «إن الخطوة التي تم اتخاذها مع أبوظبي خطوة تاريخية، وبالإضافة إلى ذلك ستشهد المرحلة القادمة زيارات أخرى لمسؤولين أتراك إلى الإمارات في مقدمتهم رئيس المخابرات التركية حقان فيدال، وأن العلاقات مع الإمارات ستصل في ظل هذه التطورات إلى نقطة مختلفة»، حسب وصف الرئيس أردوغان.
رافعة إقليمية
وبعد 6 أيام فقط من الزيارة، وأثناء عودته من تركمانستان بعد مشاركته في قمة رؤساء منظمة التعاون الاقتصادي «إيكو» الخامسة عشرة، تحدث الرئيس التركي عن تحسن قادم في العلاقات مع مصر التي أجرت تركيا معها- حتى الآن- جولتين من المحادثات الاستكشافية الأولى في أبريل، والثانية في سبتمبر من هذا العام، وهو ما يؤكد أن التحسن الكبير والنمو المطَّرد في العلاقات التركية الإماراتية، سينعكس إيجابياً على المنطقة برمتها، حيث نشهد أيضاً تحسناً في العلاقات السعودية التركية، في ظل زيارة وزير الخارجية التركي إلى الرياض في 10 مايو الماضي، كما تحدث الرئيس أردوغان إلى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز في 18 يوليو من هذا العام.
أسمنت الشعوب
إذا كانت السياسة هي باب الخلافات بين الدول، فإن «الاقتصاد» هو الأسمنت الذي يربط بين الشعوب، ويحافظ على علاقات مستدامة تنطلق من المصالح المشتركة التي توفرها الاستثمارات والتجارة والتعاون الاقتصادي؛ لذلك كان هناك حرص إماراتي – تركي على تعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين خلال المرحلة القادمة.
وفي سبيل تأكيد هذا النهج، تضمن جدول زيارة وزير الخارجية التركي اللقاء برجال الأعمال الأتراك الذين يعملون في الإمارات، وهو ما يكشف حجم ومدى الدور الذي يمكن أن تلعبه العلاقات التجارية والاستثمارية بين البلدين.
الاستثمار الاستراتيجي
وتأكيداً من الإمارات على عزمها «الاستثمار الاستراتيجي والطويل» في العلاقات التركية الإماراتية أعلنت الإمارات عن تأسيس صندوق بقيمة 10 مليارات دولار لدعم الاستثمارات في تركيا. سيركز الصندوق على الاستثمارات الاستراتيجية، وعلى رأسها القطاعات اللوجستية، ومنها الطاقة والصحة والغذاء.
كما وقع البلدان في 24 نوفمبر الماضي الكثير من الاتفاقات ومذكرات التفاهم التي تؤسس لشراكة اقتصادية كبيرة تغطي قطاعات كثيرة، منها اتفاقات لتبادل المعلومات المالية، والتعاون بين شركة أبوظبي للمواني وصندوق الثروة السيادية التركي، واتفاقية تعاون بشأن صندوق رأس المال الاستثماري لشركة أبوظبي القابضة، والتعاون بين شركة أبوظبي القابضة وصندوق الثروة السيادية التركي، واتفاقية تعاون بين شركة أبوظبي القابضة ومكتب الاستثمار في تركيا، ومذكرة تفاهم بين سوق أبوظبي للأوراق المالية وبورصة إسطنبول، واتفاقية للتعاون الإداري المتبادل في المسائل الجمركية بين دولة الإمارات وتركيا، والتعاون بين شركتَي أبوظبي القابضة وكاليون يتريم القابضة التركية.
وتنتظر العلاقات الاقتصادية والاستثمارية بين البلدين طفرة كبيرة في المرحلة القادمة، خاصة أن هناك أساساً قوياً لهذه العلاقة، حيث تعد الإمارات في مقدمة شركاء تركيا في التبادل التجاري، وفي قائمة الدول العشرين الأكثر تبادلاً تجارياً مع تركيا.
وحسب معطيات عام 2019، بلغت صادرات الإمارات العربية المتحدة إلى تركيا 4.3 مليار دولار، فيما بلغت صادرات تركيا إلى الإمارات 3.5 مليار دولار. وبلغ حجم التجارة البينية بين الدولتين ذروته في عام 2017 بقيمة 14.7 مليار دولار. وهناك ما يقارب 400 شركة في تركيا مؤسسة برأس مال إماراتي، أغلبها تتمركز في شمال غرب تركيا أو منطقة بحر مرمرة.
ويمثل قطاع العقارات على رأس قائمة الاستثمارات الإماراتية في تركيا، كما أن هناك استثمارات كبيرة في قطاع المصارف، وتشغيل المواني والقطاع السياحي، وسبق أن تأسس مجلس مشترك لرجال الأعمال بين البلدين عام 2005 سُمي بمجلس رجال الأعمال الإماراتي – التركي، بهدف رفع مستوى التعاون والعمل المشترك بين رجال الأعمال.
العلاقات التركية الإماراتية تسير في الطريق الصحيح، وهو ما يدشن للعودة الكاملة للعلاقات العربية التركية كما كانت من قبل.