غاب الفنان السوري ياسر العظمة، صاحب السلسلة الدرامية الشهيرة ”مرايا“، لنحو ثماني سنوات، لينجز أخيرا، مسلسله الجديد ”السنونو“ الذي يعرض حاليا على شاشة أبو ظبي، إذ فوجئ الجمهور بأن ذاك الترقب لجديد العظمة وانتظار ما سيقدمه ”الكوميديان البارع“ لم يكن مستحقا، لدرجة يمكن معها تحوير المقولة الرائجة لتصبح في مقام كهذا ”تمخض الجبل فولد السنونو“.
اسم المسلسل، الذي أخرجه المخرج السينمائي المصري المعروف خيري بشارة، مستمد من اسم السفينة السياحية الفخمة ”السنونو“ التي تبحر من شواطئ الإمارات إلى البحر المتوسط، وتتوقف في محطات يتغير خلالها بعض الشخصيات، مع التركيز على شخصية مالك السفينة ”عوني الناكش“، الذي يجسد دوره ياسر العظمة، وحتى هذه الشخصية قادمة من إحدى لوحات مرايا القديمة عنوانها ”الرجل الذي يعرف كل شيء“، وهو ما يبرهن، فضلا عن عوامل أخرى، أن العظمة لم يأت بجديد، بل اتكأ على أرشيفه الفني الحافل دون أن يصيب الهدف.
أين الحكاية؟ هو سؤال يتردد في ذهن المتلقي وهو يشاهد ”السنونو“ مبحرة بكل رفاهيتها، من محطة إلى أخرى، بلا أي ”بوصلة حكائية“، فمن المعروف أن العنصر الرئيس في نجاح المسلسل التلفزيوني هو _تحديدا_ الحكاية التي يتم سردها بصريا، لتتطور الأحداث وتتداخل في حبكة درامية تتطور معها شخصيات العمل، وردود أفعالها ضمن قالب تشويقي، وصولا إلى الذروة أو الخاتمة.
لكن هذه ”الحدوتة“، التي لطالما أغرت المتلقي، غائبة عن هذا العمل ”السائب“، فيتحول العمل والحال كذلك، إلى مجرد ”ثرثرة“ وحوارات مملة مشتتة، لا يربطها أي رابط سوى سفينة ”السنونو“، ومالكها بطل العمل، عوني الناكش، الذي يلقي أشعارا وقصائد من هنا وهناك، ويطعّم كلامه بجمل وعبارات إنجليزية، ويتقمص دور العارف بكل شيء، محاولا تلقين ركاب السفينة النصائح والحكم وخلاصة التجارب، ضمن حوار تربوي وصائي، يبدو ساذجا لفرط تكلفه.
وحين تخفق هذه الثرثرة المضجرة والمملة في الإيفاء بتزجية الوقت في مسلسل يبلغ عدد حلقاته نحو ثلاثين حلقة، يضطر صانعو العمل إلى الاستنجاد بالغناء مطولا وببعض اللوحات الراقصة، ليشكل المسلسل قطيعة مع التاريخ الفني لياسر العظمة الذي اشتهر بتقديم سلسلة ”مرايا“ الناقدة الساخرة، وقبل ذلك الجريئة في اقتحام التابوات والممنوعات.
هذا التاريخ الفني الناصع لم يسعف العظمة في إضفاء لمسته الكوميدية المميزة على العمل، بل بدا متقدما في السن، ثقيل الحركة بطيء الكلام، يفتقر إلى روح الخفة والمرح والمشاكسة التي طالما طبعت ”مراياه“ التي عكست هموم ومعاناة شرائح من المجتمع السوري والعربي، برؤية فنية لماحة.
كما أن البذخ الإنتاجي والديكورات والتصوير والموسيقى التصويرية والإضاءة وغيرها من العناصر التي بدت متقنة، لم تستطع أن تكسر رتابة العمل الحافل بنبرة خطابية تعطي دروسا في الأمانة والصدق والوفاء والنزاهة والروح الوطنية وحتى في العلاقات الأسرية ومعضلات العصر الرقمي وملفات الفساد وغيرها من القضايا التي لا ننكر قيمتها، لكن ليس مكانها في دراما تلفزيونية يفترض أن تكون مسلية، فضلا عن تجميعها على هذا النحو الفج.
يتساءل الروائي الكولومبي ماركيز في كتابه ”لم آت لألقي خطابا“: (ما الذي أفعله هنا فوق منصة الشرف هذه؟ أنا الذي اعتبرت الخطابات، على الدوام، أشد أشكال الالتزام البشري رهبة؟)، معبرا بذلك عبر عنوان الكتاب والسؤال عن ترفعه حيال إلقاء خطابات وعظية على عشاق أعماله المدهشة من قبيل ”الحب في زمن الكوليرا“ و“مئة عام من العزلة“ و“خريف البطريرك“ و“الجنرال في متاهة“ وسواها من الأعمال التي أوصلته إلى ”نوبل“ في الأدب.. لكن الفنان ياسر العظمة وبعد نجاحات فنية سابقة، أراد أن يتباهى ويطلق صيحة مِن على متن السنونو ”جئت لألقي خطابا“ في نكران غير موفق، لأرشيفه المليء بروح الدعابة والتهكم والنقد اللاذع.