ربما كان علينا مواجهة الحقيقة، نحن الذين ما زلنا نتذكر أن لبنان كان اسمه سويسرا الشرق. ذلك اللبنان ذهب ولم يعد، وعلينا التكيف مع حقيقة ما يدور. ذكرى 4 آب (أغسطس) يوم الانفجار الكبير في مرفأ بيروت، ليس ذكرى مضت قبل أشهر، بل هو بمعنى ما الحياة اليومية الآن في لبنان. حسناً، سنتساءل من المسؤول عن وجود تلك المواد المتفجرة كلها في مرفأ بيروت، وكان قبلها مرفأً أدبياً أيضاً، حيث ذهبت وقابلت للمرة الأولى والأخيرة طه حسين، ورضي باستقبالي لأنني ابنة صديق له، كما أنعش ذاكرته الدكتور سهيل إدريس، وضرب لي الموعد. يومها كانت بيروت عاصمة عربية للأدباء والنشر وللفرح والتطور وكان يا ما كان..
الحقيقة ولدت في المنفى!
نطالب بالحقيقة!! من المسؤول حقاً عن وجود هذه المواد المتفجرة كلها (نيترات الأمونيوم) في المرفأ، ولماذا؟ ولمن؟ في لبنان نعرف أن الحقيقة ولدت في المنفى.. ولن تستحق الإجابة على هذا السؤال لمعاقبة المسؤول، ولعل (المسؤول) مسؤول عن التعتيم على الحقيقة لأنها لا تناسب مخططاته للبنان. وهكذا قتل في يوم واحد، هو 4 آب (أغسطس) منذ عام وعدة أشهر، أكثر من مئتي بريء وجرح المئات وتهدمت وعشرات البيوت وبعض المستشفيات، ولم نعرف لماذا ولم يعاقب أحد! فالمسؤول مبني للمجهول.. فالحقيقة في لبنان ولدت في المنفى.. وكل يوم هو بمعنى ما 4 آب (أغسطس) ولن يعرف أحد لماذا، فالحقيقة ولدت في المنفى لا في الإعلام اللبناني! ومن يعرف الحقيقة يعرف أن عليه أن يصمت، وإلا!!
نشبه أمريكيين سُجناء خطأ
بيروت اليوم؟ لا ماء، لا كهرباء، لا بنزين، لا مازوت، لا أدوية، ما من ضوء في آخر النفق، ولا أفق مفتوحاً على الأمل.
بهذا المعنى نشبه الأمريكي وشقيقه، فقد سُجنا 31 عاماً بدافع الخطأ العدلي، ثم أطلق سراحهما بعدما تبين أنهما كانا مظلومين وبريئين. لبنان سجين حرب أهلية، فحرب باردة يعايشها الناس، وهم في سجن اللاكهرباء، اللاماء، اللاوقود، اللاأدوية، وغير ذلك من مقومات الحياة المعافاة التي يطول ذكرها. الأمريكيان سُجنا أيضاً لأنهما من الملونين (البشرة السوداء). صرنا نعيش اليوم في لبنان كأننا من أهل البشرة السوداء في أمريكا من زمان ما قبل انتخاب أوباما رئيساً للولايات المتحدة.. متى ينتصر الشعب اللبناني على ظالميه ومدمري وطنه أكراماً لمصالحهم الخاصة وبحروب صغيرة تناسبهم؟
ألا يعون كم صار معظم الشعب اللبناني يكرههم وصرخة «كلهم تعني كلهم» غير كاذبة؟ أظن أنني سببت للقارئ ما يكفي من الاكتئاب، لكنني لم أكتب كلمة يوم ذكرى 4 آب (أغسطس) 2020 لأن كل يوم نعيشه في لبنان هو كذلك، ولكل يوم ضحاياه بمعنى ما، ولأننا تعبنا من التفتيش عن الحقيقة لأننا نعرفها!
الحرمان من الأوطان، وأنت فيها!
ثمة ما يدعى «اليوم العالمي للاجئين» لكن معظم من بقي في لبنان هم في جوهر الأمر من اللاجئين، لأن الوطن لم يعد وطناً بل صار غربة، وأقسى أنواع الغربات هي تلك التي يعيشها المرء في وطنه.. حين يعجز عن معاقبة المسؤول عن غربته في وطنه.
وكم أحزنني أن أقرأ قول الممثل أسعد رشدان: «أقدم استقالتي من الوطن، وأهدي جنسيتي لمن يرغب بها».
يا أخي، كلنا نرغب بها ونتمسك بها ولن نقوم بإهدائها إلى أحد، بل سنحلم بيوم نستطيع فيه معاقبة من أوصلنا إلى هذه الحال.
لبنان يا أخضر حلو..
بحزن أستمع أحياناً إلى الأغاني القديمة عن لبنان مثل: «بحبك يا لبنان يا وطني بحبك» وكلنا نحبه لكننا نحب الحياة أيضاً، والحياة بدأت تصير متعذرة فيه.. وأتذكر صوت وديع الصافي وأغانيه «لبنان يا أخضر حلو».. وأتذكر أيام (البيكاديلي) ومسرحيات فيروز وآل الرحباني.. أتذكر شارع الحمراء كيف كان عاصمة للمثقفين والشعراء والمبدعين.. أتذكر بحزن كم بدلوا هذا الوطن الجميل وحولوه إلى بقرة حلوب تدر عليهم المال الذي يهربون به من لبنان ونأمل أن يلحقوا به لنستطيع من جديد بناء لبنان. لكن، هل ذلك ممكن بعد كل ما مضى؟ هل سيصير بوسع الناس استعادة مدخراتهم التي أودعوها في البنوك وكلهم ثقة بها؟ وصاروا يتسولونها. وهل سيعود بوسعك أن تضغط على زر في جدار بيتك وتشتعل الكهرباء بدلاً من البحث عن المازوت لتشغيل المحرك الذي يمنحك ساعات بخيلة من التيار الكهربائي، هذا إذا كان لديك المال الذي يسمح لك بشراء المازوت أو إصلاح المحرك حين يتعطل.. لا تهرب بسيارتك إلى شاطئ البحر لتتنفس، إذ لا وقود (بنزين) لمحرك السيارة!
هل سينهض الفينيق ويحلق؟
هل.. وهل.. أم أن لبنان ذهب ولم يعد؟ وتحول إلى منصة لإطلاق الصواريخ مثلاً، وعاصمة للاغتيال السياسي؟
أتذكر يوم كانت بيروت عاصمة عربية للعلم، ويوم جئت إليها وانتسبت إلى الجامعة الأمريكية فيها وكان الهاجس الأكبر هو العلم، وكان المبدعون العرب يأتون إلى بيروت، حيث التقيت بالمصري الأديب إحسان عبد القدوس وكنا مجموعة من عشاق الثقافة العربية نرافقه لنلعب (البولينغ) في مطعم سكوتش كلوب (صار اليوم بنكاً) وأتذكر يوسف إدريس وذهابه إلى مكتبة «العم سميح» لشراء الصحف ويقول لزوجي ضاحكاً إنه يطالعها تحت السرير لأنه لم يألف حرية مطلقة كهذه، وأتذكر عشرات المبدعين والمثقفين العرب الذين كانت بيروت عاصمتهم الروحية، واليوم صارت مطاراً للهجرة، وذلك محزن. أتذكر يوم تعرفت في بيروت بالعديد من النجوم المصريين والعرب، وكانوا يحضرون إلى «عاصمة الثقافة العربية» كما كانت قبلها القاهرة، أما اليوم فالمهاجر من لبنان يخشى العودة حتى لزيارة الأهل، لأنه لم يعد بوسعه أن يتحمل انفجاراً هنا واحتيالاً هناك وبيوتاً بلا كهرباء ولا ماء.. وجنازات القلب الذي كان وما يزال عاشقاً للبنان. لكن ثمة من لا يرغب في أن ينهض لبنان على قدميه لأسباب أترك للقارئ ذكرها، والكل يعرفها.