ربما لا يعرف الكثيرون المستوى العلمي الرفيع للفنانة الراحلة دلال عبد العزيز، التي تراوحت أدوارها الفنية بين الخفيف والأخف، فتركت انطباعاً غير دقيق لدى جمهورها بأنها بطلة الأعمال السهلة، التي لا تخرج عن حسابات المتاجرة بالشكل والجمال، وهو الاعتقاد الذي اختصر قدراتها ومواهبها في مجرد التقييم المبدئي لظاهر الأشياء.
حقيقة الأمر أن دلال عبد العزيز لم تكن الفتاة الجميلة، التي تخرجت في كلية الزراعة، وأحبت التمثيل فحسب، لكنها كانت طاقة علمية وثقافية أسيء توظيفها كثيراً، بالارتكان إلى تأثيرها الرومانسي، ووضعها في قالب الاستثمار التجاري لرفع معدل الإيرادات في شباك التذاكر في دور السينما والمسرح، وزيادة نسبة مشاهدة الشاشة الصغيرة.
فالفتاة الجميلة الرقيقة الجذابة لم تعتمد في مشوارها الحياتي والإبداعي على إمكانياتها الشكلية والجسدية، وإنما جعلت رهانها الأساسي على اجتهادها العلمي والدراسي، كونها لم تُعطِ الأمان الكامل للمجال الفني، ولم تبنِ قصوراً من رمال على إغراء الشهرة والمال والجمال، فهي تعلم تمام العلم أن تلك العوامل قصيرة الأمد والأجل، ولا يمتد تأثيرها لأكثر من العُمر الافتراضي للفنان والفنانة، ولهذا اهتمت بالتحصيل الدراسي في المقام الأول، ليكون دعماً حقيقياً في رحلة الفن والإبداع والتمثيل، فقد حصلت دلال على بكالوريوس الزراعة في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، ولم تكتف بهذا القدر، بل جددت رحلتها مع الأوراق والأقلام والكتب والمحاضرات، فحصلت على بكالوريوس الإعلام في جامعة القاهرة، بغية العمل في المجال الإعلامي، كونه المجال الذي يوافق ميولها ويناسب طموحها في الشهرة والنجاح.
ولأنها رأت أن الحصول على شهادة في التخصص الإعلامي غير كافية لإشباع رغباتها العلمية وآمالها العريضة، فعزمت على استكمال مشوار الدراسة إلى النهاية، فالتحقت بكلية الآداب جامعة القاهرة، وحصلت على شهادة الليسانس، لكن ذلك لم يقنعها بانتهاء المسيرة، فحصلت على دبلوم العلوم السياسية لتُعطي لنفسها فرصة الاختيار بين أكثر من مجال، وتضاعف من احتمالات نجاحها في الشهادات العلمية المرموقة التي نالتها بجدارة. لكن لأن الرغبة في أن تُصبح ممثلة كانت قد تمكنت منها، فلم تستطع مقاومة إحساسها الداخلي بأنها موعودة بالتمثيل والشهرة، ولا مفر من العمل في هذا المجال، وبالفعل عقدت دلال عبد العزيز ابنة محافظة الشرقية العزم على الإقامة في القاهرة، والاشتغال في مهنة التمثيل، وسعت للبحث عن فرصة لإثبات وجودها كممثلة، وتمكنت من القيام بأدوار ثانوية في بعض الأعمال الدرامية والمسرحية، بمساعدة المخرج نور الدرمرداش، ولكنها لم تقنع بالفرص الصغيرة، وظلت تنتظر لحظة الانطلاق. وفي عام 1981 شاركت الفنان سمير غانم بطولة مسرحية «أهلاً يا دكتور» مع الفنان الراحل جورج سيدهم، وقبل أن تنتهي المدة المقررة لعرض المسرحية التي استمرت نحو أربع سنوات، تزوجت من سمير غانم فكان خبر الزواج حدثاً فنياً كبيراً، ورسخت أقدام الحبيبة والزوجة على خشبة المسرح فقدمت تجارب أخرى ناجحة كان من بينها، «فارس بني خيبان» و»أخويا هايص وأنا لايص» و»حُب في التخشيبة» و»هالة حبيبتي»، وكلها أضافت لرصيد الفنانة الشابة آنذاك، حيث تم الاعتماد عليها في بطولات سينمائية مهمة، بموجب نجاحها في المسرح، وذيوع اسمها كنجمة ساطعة.
وفي السينما كانت فرصة دلال عبد العزيز أكبر بكثير، لتأكيد تفوقها ونجاحها، لكن ثمة شيئا ما اختلف في معايير الجودة الفنية، إذ رحبت الفنانة الشابة بمعظم الأدوار التي رُشحت لها، فأصبح لديها كم وفير من الأعمال والأدوار بنسب متفاوتة في المستوى الفني والإبداعي، ولكنْ ما يمكن اعتباره فارقا ومهما، عدد قليل من الأفلام التي شاركت فيها، وهو المُدرج تحت هذه العناوين، «بئر الخيانة» و»مبروك وبلبل» و»عصافير النيل» و»آسف على الإزعاج» و»النوم في العسل» و»صنع في مصر» و»سوق الجمعة» و»سمير وشهير وبهير»، وليس مصادفة أن الأعمال المتميزة للفنان الراحلة جاء معظمها في مرحلة الوسط وقرب النهاية، ولعل ذلك ما يجعل القراءة النقدية السلبية لأعمالها الأولى شبة منطقية، لأنها لم تكن على المستوى اللائق بالموهبة الكبيرة التي بدد المنتجون والمخرجون طاقتها في الأعمال التجارية، مضمونة الربح، اعتماداً على عناصر الجذب من شكل وقوام وأداء خفيف يغري بالمُشاهدة والفرجة، من دون التدقيق في المضمون.
ومن حُسن حظ دلال عبد العزيز أن علاقتها بجمهور التلفزيون كانت جيدة للغاية، ما أتاح لها فرصة الانتشار بكثافة في الأعمال الدرامية، ومنحها القدرة على التنويع في الأدوار والشخصيات، فقد قدمت العديد من المسلسلات الجيدة من بينها، «دموع صاحبة الجلالة» ـ «في بيتنا رجل» ـ «لا» ـ «ألف ليلة وليلة» ـ «سعد اليتيم» ـ «الناس في كفر عسكر» ـ «ابن الأرندلي» ـ «أشباح المدينة» ـ «عرفة والبحر» ـ «سابع جار» ـ «أرض النفاق». هذه العناوين المُختارة مجرد عينات من أعمال درامية كثيرة تفوقت فيها الفنانة الراحلة على نفسها، رغم انشغالها في وقت ما بتربية بنتيها دنيا وإيمي اللتين ظهرت عليهما أعراض الموهبة مُبكراً، فاهتمت بهما وغذت فيهما الحس الفني، حتى صارتا نجمتين لامعتين.
في رحلة الفنانة القديرة الكثير مما يُقال عن الكفاح والنجاح والمُثابرة والإصرار، لكننا سنكتفي بهذا القدر، رغم أنها الجديرة بالاهتمام والكتابة والإشادة.