نجيب محفوظ: بين الفن والسياسة

ناصر الحرشي

عندما تفقد الحياة السياسية مناخها الصحي ويغلق باب التعبير السياسي، لا يلبث أن يجد له فرجا بالتعبير الفني والأدبي. وكان لا بد أن يقوم الأدب بدور البديل، بما يملكه من أدوات التخفي عن الرقابة بحيله التعبيرية والرمزية المعروفة.
ويقف نجيب محفوظ بين أدبائنا السياسيين طودا شامخا، لتمكنه من الأداء الفني ودرايته بطبيعة البنيان الأدبي ككيان مستقل له شروطه ونظرته الشمولية، التي تسع العالم والسياسة التي كان يسميها كاتبنا اللوثة ووجع الرأس.
نجيب محفوظ فنان سياسي يستخدم الفن للتعبير عن آرائه السياسية. من «همس الجنون، الكرنك، اللص والكلاب، حب تحت المطر، يوم قتل الزعيم، الثلاثية…». فهو ناقد اجتماعي لاذع تطورت أفكاره من الدعوة لتحرير الوطن إلى تحرير المواطن من جلاديه بالعدالة الاجتماعية، وبناء وطن قائم على الحق وليس القوة
(روسو). نجد التزامه السياسي في روايته الفرعونية الأولى «كفاح طيبة». إذ نشأ في بيت سياسي ونما وترعرع في ظل ثورة وطنية عارمة، ثورة 1919 العظيمة التي تزعمها الوطني والشهيد والأيقونة سعد زغلول باشا. عصر بمناخ سياسي فوار، يقول نجيب محفوظ (كان والدي يتكلم في البيت عن أبطال الوطن، يتابع أخبارهم، في بيت يذكر فيه اسم مصطفى كامل وأحمد فريد والكبير سعد زغلول باشا). في هذا الجو المكفهر سياسيا تبلور وعي نجيب محفوظ ونضج فكره، وهو لم يمارس أي نشاط حزبي، لكنه عاش في غمار المظاهرات والإضرابات. غير أنه إزاء ضغوط الوضع السياسي انهار بعد هزيمة يونيو/حزيران، وأدان العصابة النكساوية من عساكر ثورة 1952 المسؤولين عن النكبة القومية المصرية، حسب تعبيره. من ثم نزع رداء الفنان وأسفر عن وجه المناضل السياسي، حيث حرص على المضمون في كتابات ما بعد الهزيمة، وقرر أن يصبح صوتا فضائحيا كرد فعل على الهاوية التي انحدرت إليها الأمة المصرية والعربية.
في رواية «الحب تحت المطر» علا فيها صوت السياسي على صوت الفنان يقول حسن مهران أحد شخصيات الرواية (لا مهرب من السياسة). في هذه الرواية تتضاءل كل الهموم الذاتية لتذوب في الهم الأكبر، وهو زلزال الهزيمة وأفول الأحلام الوحدوية، لأن زعيمها جمال عبد الناصر ظل سجين أوهام الطبقة الوسطى، كما ردد نجيب محفوظ حينما حاورته مجلة «روزا اليوسف» كما أنه «لم يكن كاسترو العرب بل فقط مهرجا يبيع أحلاما». يقول حسن حجازي مخاطبا منى زهران في رواية «حب تحت المطر» (تذكري أن همومنا صغيرة إذا قيست بالويلات التي تنصب على الوطن). هنا صور نجيب محفوظ الهزيمة وكيف استوطنت حياة الناس، إذ أن المشاكل تنبع منها وتصب فيها، بدءا بالحب والزواج والعمل والجنس والفكر والعلاقات العامة والحاضر والمستقبل، انتهاءً بالوطن والمواطن. كل شيء يدور في فلك السياسة والحرب. الحوار السياسي تسود فيه القضية، قضية الأمة العربية والثورة والتحرير ثم السقوط المدوي لأبطالها. فالشخصيات في رواية «الكرنك» التي تتطلع إلى مجتمع ديمقراطي مزدهر تنهار تحت وطأة التعذيب في المعتقلات الناصرية، أو هي تقوم بمغامرات بلانكية ودونكيشوتية وحماقات فردية مآلها السقوط كما حدث لبطل رواية «اللص والكلاب» سعيد مهران المخلص المزعوم واللص المطارد. أما في رواية «القاهرة الجديدة» فقد أدانت الحكم الملكي الإقطاعي والاستعمار البريطاني إذ في فصولها يعاود السؤال السياسي إلحاحه المباشر توجهه (سنية) ممثلة الجيل الجديد، وهي بطلة في الرواية. هنا تتحرك الرواية السياسية المحفوظية من موقف التساؤل إلى الرفض والإدانة. فالكاتب هو المحرك لهذا الرفض والداعي إلى تغيير أخلاقيات المجتمع. باختصار لقد ضحى نجيب محفوظ بالفن من أجل السياسة داعيا إلى الالتزام بقضايا المجتمع انطلاقا من رؤية جديدة مصححا مسارات ثورات عربية مفلسة أيديولوجيا ومندحرة عسكريا، ثم متحولة إلى سلطة مسوخ شبيهة بليفياتان هوبز.

السياسةالفنناصر الحرشينجيب محفوظ