حتى الآن لا حشود ولا مواجهات عسكرية على الميدان التقليدي للمعركة، لكن حربا تستعر بقوة، ومنذ أكثر من شهرين، بين المغاربة والإسبان بشكل يختلف تماما عن المألوف. ففي السابع عشر من مايو الماضي، أي في ذروة النزاع، الذي طفا على السطح بعد استقبال الإسبان لزعيم البوليساريو، تدفق وفي ظرف أربع وعشرين ساعة فقط، نحو خمسة آلاف مغربي على مدينة سبتة المحتلة، وكان ذلك إنذارا من جانب الرباط إلى غريمتها الإيبيرية، أخطرتها من خلاله بأنها قد تلجأ لاستخدام واحد من أفتك الأسلحة التي بحوزتها، وهو سلاح الديمغرافيا.
لكن مدريد وبعد أن امتصت الصدمة، بادرت لتوسيع نطاق المعركة ونقلها من موقعها الأصلي إلى موقع آخر، واستغلت صورا ومشاهد ظهر فيها بعض الأطفال المغاربة في سواحل الجيب المحتل، لتوهم الرأي العام الأوروبي بأن المغرب لم يعد يحترم المعاهدات الأممية لحقوق الطفل، ساعية في خضم ذلك إلى التأثير في حلفائها في القارة، لإقناعهم بالوقوف معها للرد على عما اعتبرته انتهاكا خطيرا لحرمة الحدود الأوروبية.
وفي كلتا المحاولتين المغربية والإسبانية، كان واضحا أن الحرب النفسية بين الجارتين، بلغت منعطفا حادا. فتهديد الرباط بالقنبلة البشرية، قوبل بتهديد مواز من جانب مدريد بالقنبلة الأوروبية، غير أن الأمر لم يتوقف عند حد تبادل تهديد بآخر، فبمرور الوقت وتمدد الأزمة، بدأ الإسبان، وبعد أقل من شهر مما جرى في سبتة بالتلويح، وفي مناسبتين متتاليتين بالإقدام على خطوة تصعيدية إضافية، وهي ضم المدينتين المحتلتين، أي سبتة ومليلية، إلى منطقة “شنغن”، ما يعني إلغاء “النظام الخاص” الذي كان يسمح لبعض المغاربة بدخولهما من دون تأشيرات. وهنا قامت الرباط بالرد على ذلك، من خلال إقناع البرلمان العربي بأن يصدر في اجتماع طارئ عقده في القاهرة، بيانا غير مسبوق، لم يكتف فيه بمجرد الإعراب عن التضامن العربي مع المغرب، في خلافه مع إسبانيا، بل مضى أبعد للتأكيد على “ضرورة فتح ملف مدينتي سبتة ومليلية المغربيتين، والجزر المغربية المحتلة لتسوية هذا الوضع المخلّف من الحقبة الاستعمارية”. ولم يكن من قبيل الصدفة أن تنشر جريدة “الباييس” بعدها بأيام قليلة، تقريرا تضمن وثيقة حكومية وصفت بالسرية “حذرت وللمرة الأولى وبوضوح من التدهور السريع للوضع الاجتماعي في المدينتين”، واشتملت على “خطوط أولى لاستراتيجية تعزيز الطابع الإسباني للمدينتين، ولمكافحة الاختناق الاقتصادي فيهما”. لكن أغرب فصول الحرب النفسية بين البلدين كانت تلك التي حصلت الثلاثاء قبل الماضي، حين نقل موقع إخباري إسباني خبر مشاهدة مركب ترفيهي للعاهل المغربي على مقربة من شواطئ سبتة، مرفوقا بثلاث خافرات عسكرية.
ولم تعلق الرباط على ذلك كما لم يقل المسؤولون الإسبان بدورهم، إن كانوا متأكدين من أن الصور التي أرفقت مع الخبر كانت حقيقية، أم مغلوطة، أم كانت حديثة أم قديمة؟ ولم يقولوا بالطبع إن كان المركب المعني هو فعلا مركب الملك المغربي، أم لا؟ أو إن كان موجودا ساعة التقاط الصور على متنه، أم غير موجود؟ وفضلوا بدلا من ذلك الصمت المطبق. غير أن ما لفت الانتباه، أن الحديث عن مشاهدة مركب العاهل المغربي محمد السادس على مقربة من شواطئ سبتة، كان مختلفا عما حصل في مناسبات سابقة، وآخرها الصيف الماضي، حين نقلت بعض المواقع الإخبارية صورا وفيديوهات لمغاربة على متن بعض الزوارق، وهم يحيون الملك المغربي الذي ظهر على متن مركبه في مكان ما في عرض البحر، وقيل وقتها وبحسب تلك المصادر، أنه لا يبعد كثيرا عن سواحل المدينة المحتلة. فما كان جديدا الآن، أن الحديث عن ظهور محمد السادس في المكان نفسه تضمن عنصرا إضافيا، وهو قدومه إلى ذلك الموقع مع ثلاث سفن حربية، ما يعني في حال ثبوت الخبر، أن الأمر لا يتعلق بفسحة بحرية ملكية، بل بتحرك سياسي على أعلى مستوى، للتأكيد على انه لا سبيل لإسبانيا، لأن تمضي في خططها لترسيخ إسبانية الجيبين المحتلين، وأن تصريح رئيس الوزراء المغربي سعد الدين العثماني، في وقت سابق، الذي قال فيه إنه سيأتي اليوم الذي سيُفتح فيه ملف سبتة ومليلية، لم يكن سقطة لغوية، أو سوء تقدير دبلوماسي، بقدر ما كان تعبيرا دقيقا عن نوايا وتطلعات المملكة المغربية، لاستعادة ما ظلت تعتبره جزءا من أراضيها المحتلة. لكن السؤال هنا هو لم امتنع الإسبان عن أي إشارة تدل على أنهم أخذوا المسألة بالجدية المطلوبة؟ وإن كانوا يرون أن الخبر الذي نقله موقع إخباري إسباني كان كاذبا، فلم امتنعوا اذن عن التعبير عن ذلك بشكل صريح؟ إن الطريقة التي تعاملوا بها مع الموضوع فتحت الباب أمام أكثر من تأويل. فما الذي جعل الصحافة الإيبيرية لا تطالب السلطات بفتح تحقيق، مثلما فعلت العام الماضي، حين تطرقت بإسهاب إلى شريط فيديو، تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي، وأظهر العاهل المغربي وهو يرد التحية من مركبه على مغاربة كانوا يعبرون البحر بزوارقهم في مكان غير بعيد عن سبتة؟ هل فعلت ذلك لأنها تلقت مثلا تعليمات ما بالتهدئة مع المغرب؟ أم أن عدم الكشف إلى الآن عن نتائج التحقيقات في حادثة العام الماضي، جعلها تحجم عن تكرار المطالبة بفتح التحقيق في الموضوع نفسه تقريبا من جديد؟ على أي حال فإن الجانب الأهم الذي بقي غامضا في القصة هو، معرفة الآثار التي قد يكون تركها تداول مثل ذلك الخبر سواء كان صحيحا أم لا، في الإسبان ثم في مغاربة المدينتين المحتلتين.
إن قياس ردة فعلهم لا تبدو متاحة بسهولة، بل لعلها تبقى واحدة من أهم الألغاز والأسرار، التي تتحفظ مدريد عن الكشف عنها، مقابل ترويجها المستمر بأن مغاربة الجيبين لو خيروا أو استفتوا حول انتماءهم لجهة ما لاختاروا، على الفور ومن غير تردد، أن يبقوا تحت حماية التاج الإسباني. وهذا ما تشتغل عليه الآلة الدعائية الإيبيرية، وتعمل على تصويره وتسويقه بشكل متواصل. فكيف سيطالب المغرب بسبتة ومليلية إذن، إن كان المعنيون المباشرون بالأمر، أي المغاربة المقيمون فيهما، يفضلون بقاءهما تحت السيادة الإسبانية؟ ولكن ما لا تقوله تلك الآلة الدعائية في المقابل، إن كان الحصار الاقتصادي الذي ضربه المغرب منذ أكثر من عام على المدينتين، قد بدأ يؤتي أكله ويحقق هدف الرباط في استعادتهما عاجلا ام آجلا؟ وهل إنه دفع مغاربة سبتة ومليلية للضغط أكثر على حكومة الاحتلال حتى تفتح مع المغرب باب المفاوضات حول مصيرهما؟ ومع أنه من السابق لأوانه أن نعرف الآن من كسب الجولة الأولى من تلك الحرب النفسية، إلا أن يقين المغاربة من أنهم يملكون الأفضلية المعنوية على خصمهم، لأنهم أصحاب الحق، هو وحده من سيضعهم على السكة الصحيحة ليستعيدوا بالنهاية كامل أراضيهم المحتلة طال الزمن أم قصر.