كيف أنشر ما ليس في حوزتي؟

غادة السمان

توقفت عند ما كتبه الأستاذ واسيني الأعرج حول نشري لرسائل غسان كنفاني قائلاً: ربما كانت اللحظة المتفردة تاريخياً هي ما قامت به غادة السمان عندما نشرت رسائل المناضل العظيم والكاتب الفذ غسان كنفاني (2009) لكن التجربة ولدت مبتورة؛ إذ لا نجد في الكتاب إلا رسائل غسان كنفاني الملتهبة عشقاً دون رسائل غادة السمان (القدس العربي 21ـ4ـ21). والأستاذ واسيني الأعرج محق في قوله إن التجربة «ولدت مبتورة»، لأنها لا تضم رسائلي الجوابية أيضاً إلى غسان. لكن لم يكن في وسعي نشر ما ليس في حوزتي.
فرسائلي عند غسان كما رسائله عندي، كما حال بقية المتراسلين، وقد وجهت أكثر من نداء قبل نشري لرسائل غسان معلنة أنني سأنشرها وطالبت الذين رسائلي في حوزتهم أن يرسلوا لي رسائلي إليه أو نسخة مصورة عنها، ولم يرد أحد على ندائي.

حاولت نشر رسائلنا معاً وفشلت!

قبل نشري لرسائل غسان كنفاني لي، وجهت النداء لمن في حوزتها/في حوزته رسائلي إليه، وقلت في ندائي المنشور للمرة الأولى بتاريخ 11ـ4ـ1989 في مجلة «الحوادث»: «أوجه النداء إلى من في حوزته (أو في حوزتها) رسائلي إلى غسان، وأرجوهم جعل نشر رسائلنا معاً ممكناً كي لا تصدر رسائل غسان وحدها ولم يرد عليّ أحد. وهكذا فأنا لست المسؤولة عن هذه «الخطوة الناقصة» بل الذين لا يرغبون في نشر رسائلي إليه، وهي رسائل تحترم وضعه العائلي، كما كتب الدكتور الكبير إحسان عباس: «تشهد رسائل غسان لغادة بأنها كانت حريصة على ألا تحطم البيت العائلي على رأس غسان، كما أنها كانت حريصة على أن تظل العلاقة علاقة حب نقي مؤبد بصلابة المرأة المتمنعة». د. إحسان عباس ـ مجلة الحصاد ـ قبرص 9ـ10ـ1992. وبالتالي يا عزيزي الأستاذ واسيني الأعرج، لقد فعلت كل ما في وسعي للحصول على رسائلي إلى غسان، ولست المسؤولة عن تلك الخطوة (التاريخية) الناقصة، كما ذكرت.

محمد شكري ونشري للرسائل

محمد شكري أحد كبار الأدباء العرب الذين قدروا خطوتي اللامسبوقة من (امرأة) كاتبة، وذلك في نشر رسائل غسان كنفاني لي، كتب يقول: «غادة كانت دائماً الأديبة الشجاعة الأولى في العالم العربي، هي رائدة الجريئات في حواراتها وإبداعاتها، صامدة ضد كل المغريات».
ورغم الهجوم عليّ لنشري رسائل غسان، قمت بنشر الرأي الآخر ضد إصداري للرسائل، أي أنني احتراماً لحرية الرأي التي أنادي بها، لم أكتف بنشر مقتطفات من المقالات المؤيدة لنشري للرسائل، بل ونشرت أيضاً مقتطفات مما نشر ضدي، وذلك في الطبعات كلها، كما الآخر رقم 12 التي صدرت عن تلك الرسائل.. وما فعلته ليس استخفافاً بالرأي الآخر بل احتراماً له، وقد أصدرت كتابي «محاكمة حب» توكيداً لذلك، فهو يضم المحاورات التي دارت معي على هامش «انفجار» نشري لرسائل غسان كنفاني لي. ونشرت في الكتاب ذاته نصين بخط الشهيد لم يتم طبعتهما في «الأعمال الكاملة» له، وهي -للأسف- ناقصة، ومؤسسة غسان كنفاني لم تنشر الكثير من أعماله المتناثرة في الصحف التي كتب فيها، كما في جريدة «الأنوار» (وكان مسؤولاً عن الملحق الأدبي)، وفي جريدة «المحرر» تحت عنوان (أوراق خاصة)، ومعظمها رسائل حب مبدعة ككل ما يكتبه غسان كنفاني.
وما زلت أتمنى جمع كتاباته كلها، بما في ذلك كتاباته في مجلة «الحوادث» تحت اسم «ربيع مطر»، ولم يكن وحده يكتب تلك الزاوية، ولعلي الوحيدة اليوم التي تستطيع أن تدلُّ عليها بعد وفاة سليم اللوزي ورياض شرارة والكثير من العاملين يومئذ في «الحوادث». ولكن بدلاً من الاهتمام بجمع تراث غسان كنفاني، كان الحرص على الهجوم عليّ أكبر، ثم إن غسان كان أيضاً رساماً تشكيلياً مبدعاً. وكنت قد احتفظت بلوحات غسان التي رسمها وأهداني إياها، وللأسف احترقت اللوحة التي رسمني فيها وكنت قد علقتها في غرفة مكتبي في قصر الداعوق حيث اختارت القذيفة أن تنفجر في الحرب الأهلية اللبنانية، وتلك حكاية أخرى تطول، وبقيت في حوزتي عدة لوحات من رسم غسان كنفاني كان قد أهداني إياها وكنت قد علقتها في غرفة أخرى ونجت من الحريق!

رسائل الرئيس ميتران إلى حبيبته

على العكس من الهياج الذي يمكن أن تسببه امرأة عربية نشرت رسائل حب لها، نجد الغرب يحتفي برسائل الحب، وأذكر كمثال أن رئيس جمهورية فرنسا ميتران، وكان عاشقاً لامرأة (وهو المتزوج والأب لعدة شبان)، وظلت علاقتهما سرية مع رئيس الجمهورية ميتران، لكنه حين أصيب بمرض السرطان واستفحل وأدرك أنه سيموت قريباً، اعترف بأبوته لشابة جميلة تحمل اسم مازارين بانجو، وقام بدعوتها للغداء في مطعم شهير في الحي اللاتيني الباريسي، كما حرص على أن يعرف بعض الصحافيين بذلك اللقاء، وهكذا نشرت صوره مع ابنته اللاشرعية أمام باب المطعم على الرصيف في جادة «سان جرمان». وحين رحل رئيس جمهورية فرنسا السابق ميتران، حضرت دفنه عشيقته، وابنته غير الشرعية احتضنتها زوجته! وبعدها، نشرت آن بانجو (عشيقته) رسائل حب ميتران لها! في الغرب يتم الاحتفاء بالحب ورسائل الحب، على العكس منا!

توهمت أنني أُشجعهُنّ… لكن!

يوم نشرت رسائل غسان كنفاني لي توهمت أن ذلك سيشجع النساء العربيات على فتح أفق جديد، وأنه سيفتح آفاقاً جديدة للأدب الشخصي الذي نفتقر إليه في العالم العربي، «فقد حان الوقت لنزع الأقنعة عن ازدواجية الروح فينا ليستقيم لنا العيش أخيراً، ونخرج من دهاليز الرياء وسراديب المواراة إلى فضاء النور والصراحة! كما كتب الدكتور عيسى بلاطة. وكتب ياسين رفاعية: «إذا كانت كل كاتبة عربية تملك جرأة غادة السمان في نشر ما كتب لهن من رسائل من كتاب وشعراء وفنانين، فإننا سوف نملك شاشة جديدة في أدبنا المعاصر ما زالت خفية. وإقدام غادة على نشر رسائل غسان خطوة رائدة». وللأسف، فإن إصداري لرسائل غسان وردّة الفعل النقدية العنيفة عليه والهجوم الذي طالني كان له فعل معاكس، ولم تنشر كاتبة بعدي رسائل حب كرسائل غسان كنفاني لي.
إنه «الإرهاب الفكري» الذي يجعل الخطوات كلها «مبتورة»، كما سماها بحق الأستاذ واسيني الأعرج!

 

غادة السمانغسان كنفاني