نصوص درامية وأوبئة ناقلة للعدوى… رمضان بالمصري

كمال القاضي

قبل عمليات الدمج التي حدثت بين عدد من شركات الإنتاج الفني، كان الحديث عن تردي المستوى الإبداعي للمُسلسلات والأفلام، هو المُبرر لإحكام السيطرة على رأس المال وتوظيفه التوظيف الصحيح، لخدمة القضايا العامة عن طريق إصلاح الشأن الثقافي، وإحداث التغيير الإيجابي في البنية التحتية للأفكار، عن طريق القوة الناعمة، ذلك التعريف الشائع للمُصنفات الفنية، الذي فقد قيمته وتأثيره من فرط الاستخدام الركيك والتكرار المُمل للمُصطلح، الذي تحول إلى عبارة ممجوجة تلوكها الألسنة بلا إدراك حقيقي للمعنى ودلالته وأهميته داخل السياقات الكثيرة والمُتعددة.
بداية الأزمة الدرامية للمُسلسلات المصرية ظهرت أعراضها، العام الماضي، حين فوجئ الجمهور بكم غير مسبوق من الأعمال الفنية في الموسم الرمضاني، تركز بشكل أساسي على الجريمة، كمكون رئيسي للحبكة الدرامية، وكان من بينها ما تمت تسميته بمسلسل «ولد الغلابة» الذي أسندت بطولته لأحمد السقا ومحمد ممدوح، ودُشنت حلقاته بما لم نسمع عنه من آيات الخروج على القانون بكل أشكاله ونوعياته، حيث اختلطت جرائم القتل بالمخدرات، والخيانة والتآمر بلا حدود قصوى، كأن المجتمع صار بين عشية وضحاها غابة يأكل فيها القوي الضعيف. وبناءً عليه تم التحذير من مغبة هذا النمط العشوائي في الكتابة الدرامية، لكن القائمين على عمليات الإنتاج الشامل لجميع النصوص، بعد عملية الدمج والتأميم غير المباشر للمؤسسات الإنتاجية المنافسة، لم يُلقوا بالاً لردود الأفعال الشعبية التي استقبلت جديد المُسلسلات بالرفض التام، واعتبرت الآراء السلبية محض وجهات نظر واختلاف في الأذواق، بينما كان الواقع الفعلي للمضامين الدرامية كافة يؤكد أن عملية التصنيع الفني باتت في خطر، وأن مزاعم التطوير ليست إلا غطاءً لمحاولات الاستثمار غير المدروس لطبيعة المُصنف ونوعه وجدواه، أي أن المسألة برمتها تحولت إلى تجارة هدفها الربح فقط، تماماً مثل تجارة المخدرات التي تستحوذ على المساحة الأوفر في مقياس الزمن، بالحلقات المُثيرة في أحداث المُسلسلات الخارجة عن كل الأعراف والتقاليد والقيم الاجتماعية، والخالية من أي منطق، اللهم غير منطق الترويج السلبي لأسوأ ما في المُجتمعات العشوائية المُتنامية حول أطراف القاهرة، التي تعمل الدراما المُلفقة على تثبيتها كمناطق شعبية يسكنها أولاد البلد من عموم المصريين البسطاء، وهو اجتراء على المناطق الشعبية الحقيقية المعروفة بسماتها وصفاتها وأصالتها، والمنصوص عليها سلفاً في مئات الأعمال المهمة والفارقة، التي أنتجت في زمن الإبداع المتميز لأساطين الدراما المصرية من كُتاب ومخرجين ونجوم، أسامة أنور عكاشة وإسماعيل عبد الحافظ ومحمد جلال عبد القوي ومحمد صفاء عامر ويحيى العلمي، ويحيى الفخراني وصلاح السعدني ويوسف شعبان، ونوال أبو الفتوح وعفاف شعيب وسميحة أيوب وصفية العمري، وعبد الله غيث ونور الشريف وحمدي غيث وأحمد عبد العزيز، إلى آخر جيل الكبار الذين أسسوا مملكة الدراما المصرية عبر سنوات طويلة، أفنوا خلالها المزيد من الوقت والجهد لتخرج إبداعاتهم بالمستوى اللائق من غير حوار مُخجل وتعبيرات سوقية، وتلميحات خارجه تخدش الحياء وتجرح المشاعر.

لم تكن هذه النوعيات من الأعمال الرائدة راكدة ولا خاسرة، بل كانت رائجة وزاخرة وقيمة ومضمونة العائد والربح، «رحلة السيد أبو العلا البشري»، حيث القيمة الإنسانية والمثالية، وعظمة الممثل القدير محمود مرسي، كلها كانت مسوغات للتميز وضمانة للنجاح على كل الأصعدة والمستويات، «ليالي الحلمية» و«المال والبنون» و«أرابيسك» و«الراية البيضاء» و«الزير سالم» و«الفرسان» و«الوعد الحق» و«على هامش السيرة» و«محمد رسول الله» و«الطارق» و«جمهورية زفتي» و«الشارع الجديد» و«الأيام» و«دموع في عيون وقحة» و«رأفت الهجان» و«زيزينيا» و«عفاريت السيالة» و«عصفور النار» و«الطاحونة» و«الرجل والحصان» و«ضمير أبله حكمت» و«وجه القمر».. مئات المسلسلات لعشرات النجوم والنجمات، تم عرضها في رمضان وغير رمضان، ولم يُثر أي منها ما أثارته مسلسلات اليوم من عينة «ملوك الجدعنة» و«لحم غزال» و«ضل راجل» و«النمر» و«قصر النيل»، تلك الأجناس الغريبة والشاذة من دراما تبعث على القلق والخوف والفوضى، وتؤدي إلى الفزع من استحلال القتل والسرقة واستسهال الخطف والحرق والاغتصاب، وإضافة أرخص المفردات لقاموس التخاطب بين الفئات المُنحرفة من أرباب السجون وقتلة الأطفال والنساء، ومتعهدي الإجرام بكل أشكاله وأطيافه ومخاطره!
أعمال لا تحمل من سمات الإبداع شيئاً، فالداعي للقتل، والمحرض عليه كالقاتل، وكذا المُغتصب وقاطع الطريق وهاتك الأعراض وتاجر المخدرات والبغي والساقطة والمُهرب والبلطجي، كلها نماذج امتلأت بها الحلقات، وفاضت عن حاجة الجمهور للعظة والاستيعاب والفطنة والحذر، فصارت هي المقياس والشارة والعلامة لكل أشكال الجريمة والانحراف والكوارث اليومية في الساحات والباحات والشوارع والأسواق والبيوت والمؤسسات، كأنها الوباء انتشر ولا سبيل لمواجهته غير التسليم بوجوده والاعتراف به، وتلك أولى دلالات السقوط المُجتمعي والقيمي والأخلاقي، حيث لا جدوى من المعالجات الشكلية والسريعة في الحلقة الأخيرة لكل مسلسل، ولا تأثير لمصائر الأبطال السوداوية في نهايات الأحداث، فما يُعرض على مدار ثلاثين يوماً ويتشبع به الشباب والمراهقين من الجنسين، لا تمحوه لحظات الندم البادية على الوجوه في الفصل الأخير من المأساة.
الصناعة الدرامية المركزة بهذه الكيفية أخطر على النشء والأجيال من الأوبئة والأمراض المُستعصية، فلينظر صُناع الدراما ومحتكروها إلى زوايا الصورة التي بات عليها المواطن المصري في دراما تصنع منه مُجرماً وتحيله إلى ضحية في آن واحد، على أيدي محدثي الشهرة من النجوم والنجمات، والمبتدئين في الكتابة والتأليف والإخراج!

كمال القاضينصوص درامية