إبداع في فيلم «الأب» قد يكون خاتمة أفلام هوبكنز

عبد الكريم أنيس

في فيلمه الأخير “The Father” “الأب” الذي خرج للشاشة الفضية في شباط – فبراير للعام الجاري 2021، يقدم لنا أنطوني هوبكنز الفنان الذي ينحدر من ويلز ويحمل الجنسيتين البريطانية والأمريكية، الممثل والمخرج والمنتج، تحفة فنية رائعة تتناسب مع عمر مديد أمضاه في الإبداع الفني وتجسيد الشخصيات الديناميكية الحية، المعقدة والبسيطة.
هوبكنز الحائز على جائزة أوسكار أفضل ممثل دور أساسي عن أدائه لشخصية القاتل المتسلسل “هانيبال ليكتير” في فيلم “The Silence of the Lambs” “صمت الحملان”، المصنف كأحد أفضل مئة فيلم للسينما الأمريكية في مئة عام، هوبكنز الفائز بثلاث جوائز للأكاديمية البريطانية للأفلام ‏ أو ما يطلق عليه جوائز بافتا التي توازي جائزة الأوسكار الأمريكية، وجائزتي “إيمي” التي تمنح شهادات تقدير للإنتاج المرئي التلفزيوني، الحاصل على لقب فارس من قبل الملكة البريطانية إليزابيث الثانية لقاء اسهاماته الفنية، هذه الشخصية الفنية تقدم لنا عرضاً ختامياً قديراً يليق بصاحب الإنجازات المذكورة ويبدو أشبه بعرض ختامي جميل وحزين في آن واحد في فيلم “The Father”.

الأداء المسرحي

يقدم لنا كاتب سيناريو الفيلم ومخرجه على حد سواء، الكاتب والمخرج الفرنسي Florian Zeller نصاً يبدو أقرب للأداء المسرحي والذي تُؤدى الشخصية الرئيسية فيه بشكل منفرد، يتحدث بمفردات الأحداث عن مشاعره الداخلية ، وذلك بالإشتراك مع زميله كاتب السيناريو Christopher Hampton بعد أن قاما بتحويل النص من مسرحية لـ Zeller نفسه ليتناسب مع صيرورته كدراما سينمائية، فيتم تقديم شخصية الأب الذي يُصاب بالخرف أو باضطرابات الذاكرة، لتتناسب بشكل ملفت ومخيف مع مرض يكاد يكون مرض العصر الذي يمكن وصف تداعياته أنها أقسى من حزمة الأمراض المهلكة الأخرى التي تصيب المتقدمين بالسن، فهذا المرض لا يكتفي بإنهاك الجسد الذي عصفت به تدابير الزمن وتقلباته وانتكاساته، بل يتعدى ذلك ليرهق الذهن ويعطب الذاكرة، فيغتال كثيراً من ذكريات جميلة أو صوراً اختزنتها تجربة الحياة ليكون إنساناً مجرداً من تاريخه الماضي، البعيد والقريب، خاضعاً لعواصف من التقلبات في المزاج واضطرابات التعرف على النفس التي تتيه في محيط تتقاذفه فيه أمواج كالجبال علواً لا يستطيع الوصول لشاطئ آمن يلجأ إليه ويطمئن اليه بعد أن فقد القدرة على التمييز بين القريب المحب، والعدو البغيض، بين الحقيقة والهذيان، بين التيه بتفاصيل الانتقائية الخائبة التي تتسبب لمن هم في محيطه بالخيبة فتتملكهم مشاعر الغضب تارة والأسى واللوعة تارة أخرى، على من كانوا يوماً من الأيام رمزاً من رموز اتصالهم بالحياة.
في مشاهده التمثيلية، في هذا الفيلم الأخير، يظهر هوبكنز الفنان كشخصية قادرة على أداء الإبداع المسرحي المنفرد الذي يتسرب بشكل مباشر وآني للمشاهد الحي، ولكن هذه الكرة عبر الشاشة الفضية للسينما، ومع ذلك تتولد لديك كمشاهد ذات الانطباعات المباشرة كما لو أنك تشاهد المشهد المؤدى من قريب، وهذا ما يميز أداءات هوبكنز التمثيلية ومقدراته التجسيدية للشخصيات بكل براعة وإتقان، فتزداد استغراقاً وإعجاباً بإمكانياته الفنية بتجسيد الشخصية كما لو أنها تمر حقيقة بواقع الخرف المخيف.

أوليفيا كولمان

يشترك مع هوبكنز بتجسيد شخصيات هذا الفيلم الذي يهز المشاعر هزاً عنيفاً الممثلة الحاصلة أيضاً على جائزة أوسكار Olivia Colman وثلاث جوائز بافتا وجائزة غولدن غلوب، حتى لتظن أن هذا الفيلم يضج بالموهبة وبنجاح كاسح لتأدية الممثلين فيه، فالإبنة اللطيفة التي تعاني حسب الفيلم من عديد من الظروف، غالبيتها متخيل من ذاكرة والدها المثقوبة، تحاول وسعها أن توفق بين برها بأبيها وبين متطلبات الحياة اليومية، فهي تحاول وسعها أن تكون الابنة المثالية، بالرغم من كل الانقلابات التي يعاني منه والدها، وبالرغم من كل محاولاته بوضعها بموضع المقارنة مع أختها الغائبة أو المتخيلة، وهي مع ذلك تبقى الابنة المحبة الصابرة حتى اللحظة الأخيرة التي تفرضها وقائع الحياة في نمطية اجتماعية غربية، تكاد تصبح سمة عالمية، بالاعتماد على الحاجة لبيوت المسنين، حين تضطر العائلة لمثل هذا التصرف المشين والذي يبدو جحيماً لأحد الأشبوين حين تضيق الخيارات وتنفذ الظروف التي تعين على عكس النتائج النهائية من ضمان نهاية أسرية سعيدة في آخر محطات العمر.
تبدو ساعة اليد التي يحرص هوبكنز على تخبئتها في مخبئه الخاص مفتاحاً رئيسياً في الفيلم، حيث أنها ترمز لتيه الشخصية في الزمن، الزمن الذي تتم سرقته عبر الزهايمر، حيث تضيع الذكريات ويختلط الحابل بالنابل وتصبح التفاصيل العشوائية الانتقائية والمتخيلة هي المسيطرة، فبعد قوة وسيطرة يُصاب المريض بـ “بارانويا” الشك والارتياب مصاحبة للغضب والتمرد في ذاكرة قصيرة تكاد تشبه ذاكرة الأسماك بعد أن كان صاحب هذه الذاكرة شخصاً متعلقاً بتفاصيل تفاصيل حياته، محباً لها، متصالحاً معها، متفهماً لتعقيدات الحياة، ولكن بقدوم الزهايمر يحدث الانهيار.
لا ريب أن فيلماً يتحدث عن مرض قاتل كـ “الزهايمر” يغتال الذاكرة، سيكون له تأثير نفسي خانق عند أولئك الذين يخافون من التقدم بالعمر، ولكنه سيظل فيلماً واقعياً قاسياً تختلف الزوايا والظروف فيه باختلاف الأشخاص، وباختلاف قدرتهم على التحمل في مواجهته، أفراداً وجماعات، وعليه فهو يقدم لنا زاوية واحدة متفردة، قد لا يشترك فيها باقي الحالات التي تخضع لملابسات مختلفة وأوضاع لا يمكن قياسها على كل الحالات، ويبقى فيلماً رائعاً جديراً بالمشاهدة يُنصح بمتابعته لجميع أفراد العائلة.

أنطوني هوبكنزالابعبد الكريم أنيس