د. سعيد سالم الدرمكي
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد..
فإن الله سبحانه وتعالى قد أنزل كتابه لمقاصد عظيمة، من أعظمها تدبر آياته، والوقوف على معانيها وحكمها ومقاصدها، قال الله سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
ومن سور القرآن التي تكثر قراءتها ولها فضل عظيم ويحتاج المسلم إلى التأمل في آياتها والوقوف على الهدايات التي تضمنتها سورة الملك (تبارك الذي بيده الملك).
فيحسن بنا أن نقف على أهم مقاصد وهدايات هذه السورة المباركة، التي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنها: “إنَّ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ ثَلاَثونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ وَهِي (تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ)” رواه أحمد وغيره، وحسن إسناده بعض أهل العلم.
فمن هدايات هذه السورة المباركة بيان أنّ الله سبحانه وتعالى هو مالك الملك، المتصرف في هذا الكون والمدبر لشؤونه، وقد بدأ السورة بقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]، فالله سبحانه هو المتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء، لا يُسأل عما يفعل لقهره وحكمته وعدله، كما ذكره ابن كثير في تفسيره.
وقد ذكر الله سبحانه في السورة أنه خالق الموت والحياة، وخالق السموات والأرض، وخالق الإنسان والحيوان، ومُوجد الزرق بأنواعه، فهو المالك لكل ذلك المتصرف فيه.
ومن تدبيره لملكه وخلقه أنه يجازي المحسن على إحسانه، والكافر على تكذيبه وعدم الإيمان به، قال سبحانه {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الملك: 6].
ومن تدبيره لملكه إنزاله العقوبة على مستحقها في الدنيا قبل الآخرة، قال سبحانه: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16].
ومن تدبيره لملكه نصر عباده على عدوهم، فإن تخلى عنهم فلا ناصر لهم، قال سبحانه: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20].
ومن تدبيره لملكه تيسيره الرزق للخلق، وحصولهم على الماء الذي هو أساس حياتهم، فإن حرمهم منه هلكوا، قال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30].
فإذا علم العبد هذه الهداية وأن الله سبحانه وتعالى مالك الملك، ومدبر شؤونه وحده لا يشاركه في ذلك أحد، تعلق قلبه بالله سبحانه، ووحّدَهُ بالعبادةِ دون سواه.
ومن هدايات هذه السورة المباركة أنّ الله سبحانه هو خالق الخلق، فالسموات السبع وما فيها، والأرض وما عليها، والإنسان وما جعل فيه من سمع وبصر وفؤاد، والحيوان على اختلاف أنواعه وأجناسه خالِقُهُ الله وحده دون سواه، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
فإذا علم العبد هذه الهداية أوجب له إخلاص العبودية له سبحانه.
وفي السورة إثبات المعاد والحساب يوم القيامة، وإثبات العقوبة بالنار للمخالف المكذب للرسل، وبيّن الله سبحانه أنه لا يعلم أحد من الخلق هذا الموعد، ولكنه حق لا مرية فيه، وأما المكذبون بالمعاد وقدرةِ الله عليه، وباليوم الآخر فسيلحقهم الندمُ لمّا يرون الأمر رأي عين، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} [الملك: 27]
وإذا علم العبد أنّه إلى الله راجع، علم أنّه موقوف بين يديه ومسؤول ومحاسب، فليعدّ للسؤال جواباً.
وفي السورة إثباتُ قدرةِ الله سبحانه وتعالى، فقال في أول السورة: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1]، والسورة من أولها إلى آخرها إثبات لقدرة الله عز وجل، ومن ذلك:
خلقه الحياة والموت، وخلقه سبع سموات بإتقان، وتزيينه السماء بالنجوم التي هي رجوم للشياطين، وخلقه النار وبيان شيء من صفتها، وإحاطة علم الله سبحانه بالسر والجهر، وقدرته عز وجل على عقاب المخالف في الدنيا قبل الآخرة، وخلقه الطير يطير في السماء لا يمسكه أثناء الطيران إلا الله، وقدرته على نصرة عباده وإن قلّ عددهم وعتادهم، فإن تخلى عنهم فلا يمكن لأحد أن ينصرهم من دونه، وقدرته على رزق جميع الخلق، ولا يمكن لأحد أن يرزق أحداً إن منع رزقه عنهم، وخلقه الإنسان وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وانفراده سبحانه بالنعم خصوصاً الماء، ولا يقدر أحد على جلبه وتوفيره إن جعله الله غائراً.
فإذا علم العبد ذلك أوجب له خشوعاً لربه في قلبه ورهبة وخوفاً منه ورجاءً إليه، وانقياداً وتسليماً لأمره ونهيه.
ومن الهدايات المتضمنة في سورة الملك إثبات إرسال الله للرسل والأنبياء، ووجوب تصديقهم والإيمان بما جاءوا به من عند الله، وأن العقل السليم هو المتبع لهم، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]
كما ذكر الله سبحانه وتعالى في السورة الفرق بين أهل الهداية وأهل الضلال والتكذيب فقال: { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22]، وبيّن صفات أهل الهداية والتي منها أنّهم يخشون ربهم بالغيب، ويشكرونه على نعمه التي رزقهم، ويصدقون بما جاءت به الرسل، ويؤمنون بالله ويتوكلون عليه.
هذا كله يوجب للعبد الذي يرجو النجاة يوم القيامة أن يحقق الإيمان بالله سبحانه وتعالى كما أراده الله وبينه، فيوحده ويصرف العبادة جميعها له دون سواه، وأن يعتصم بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ففي ذلك النجاة والعصمة عن الضلال.
ما ذكرته شيءٌ يسير من هدايات هذه السورة ومضامينها، فعلى المسلم إذا تلا هذه السورة ألا تغيب عنه هذه الهدايات، وإذا قرأ آيات الله سبحانه وتعالى فعليه أن يمعن نظره وفكره فيها، فهذا الأمر يزيده معرفة بربه، وإيماناً به.
وفقني الله وإياكم لكل خير.