سيرة «حرب الكهرباء»… بين عمالقة الصناعة والعلوم

زيد خلدون جميل

واجه وليام كملر الحضور السبعة عشر في الغرفة في الساعة السادسة وثمان وثلاثين دقيقة صباح يوم السادس من أيلول/ سبتمبر عام 1890 في نيويورك، وتمنى لهم حظا سعيدا. ولكنه لم يكن يودعهم ليبدأ رحلة حول العالم، بل لأنه كان في الواقع في وضع لا يحسد عليه، فقد أكمل كملر بقوله، إنه يعتقد أنه ذاهب إلى مكان جيد، أما ما تقوله الصحف عنه فهو غير صحيح، وجلس على الكرسي بهدوء وقال «الوداع» وبدأ الحرس عملية ربطه بالكرسي والأقطاب الكهربائية، فاستدار نحوهم كملر قائلا، «أتقنوا عملكم فأنا لست في عجلة من أمري» فلم يكن ذلك الكرسي سوى الكرسي الكهربائي الذي ستتم تجربته عليه، فقد كان كمار أول من سيتعرض لهذه التجربة المريرة. وأشار إلى أحد الحرس ببدء عملية الإعدام، وما أن تم تشغيل الجهاز حتى ارتفع كتفا كملر نتيجة لمرور تيار كهربائي بقدرة ألف فولت عبر جسمه. وبعد سبع عشرة ثانية أقر الطبيبان المسؤولان عن العملية بأنه توفي، وتوقف كل شيء وساد الصمت الغرفة.
ولا نعلم شعور الحضور في تلك اللحظة، ولكنهم فوجئوا بصيحة أحد الطبيبين «يا ألهي أنه مايزال على قيد الحياة» فقد كان قلبه مايزال يخفق، ولم يتوقف تنفسه. وصاح أحدهم «افتحوا التيار» ولكن هذا كان غير ممكن حيث أن المولد يحتاج إلى أربع دقائق ونصف الدقيقة كي يعمل ثانية. وتم تشغيل النظام أخيرا. وكان التيار هذه المرة ألفي فولت، ما أدى ألى نزيف وانفجار الأوعية الدموية الواقعة تحت الجلد واندلعت النار في جسده واحترق شعره. وامتلأت الغرفة برائحة لا تطاق، ما دفع بعض الحاضرين إلى الخروج لشعورهم بالغثيان. واحتاجت جثة كملر بعد الإعدام إلى عدة ساعات كي تبرد، واكتشف الأطباء أن بعض أوردته الدموية احترقت وتحولت إلى كربون. أما الصحف، فقد انتقدت العملية بأكملها لبشاعتها.
شعر المخترع الشهير جورج ويستنغهاوس، بالاشمئزاز بسبب عملية الإعدام، وذكر أن السلطات كان من الأجدر أن تعدمه بالفأس لأنه سيوفر للمدان ذلك العذاب. ولكن المخترع الشهير الآخر توماس أديسون شعر بسعادة لا توصف، وقال إن المرة التالية ستكون أكثر دقة، واقترح وضع يدي المدان والقطبين الكهربائيين في الماء لتحقيق ذلك. وكان كملر قد أدين بتهمة قتل عشيقته بفأس، ووصلت قضيته إلى أعلى المحاكم في الولايات المتحدة، بدون أن ينجح في تغيير حكم الإعدام. وكان الكرسي قد تمت تجربته في اليوم السابق بنجاح على حصان . وكان المخترع أديسون قد ساهم بتصميم الكرسي الكهربائي، وكان هدفه إظهار ما يفعله التيار الكهربائي المتردد في جسم الإنسان، وهو الذي كان يتفاخر أمام الجميع بأنه لم يخترع سلاحا يستعمل لقتل الإنسان. أما ويستنغهاوس، فقد عرف نية أديسون وجلب لكملر أشهر المحامين في البلاد للدفاع عن المدان بتكلفة مئة ألف دولار، بدون جدوى.
كانت عملية الإعدام هذه، بكل ما فيها من سادية تقشعر لها الأبدان، من مظاهر الصراع المحموم بين بعض أشهر مخترعي القرن التاسع عشر في العالم، وهم جورج ويستنغهاوس ونيكولا تيسلا من جهة وتوماس أديسون من جهة أخرى، الذي يعد الأكثر شهرة وحصولا على براءات الاختراع التي كان الكثير منها مأخوذاً من أفكار الآخرين،
ومصنوعاً من قبل فريقه من المساعدين أو مشترى من مخترعيها الحقيقيين. وكان سبب الخلاف والصراع في المجال الجديد في التكنولوجيا في تلك الفترة، الذي أثار حماس العديدين، هو الكهرباء والإضاءة الكهربائية.

التيار المستمر

كان المصباح الكهربائي قد ظهر في الأصل عام 1807، وكان يعتمد على البطارية كمصدر للتيار الكهربائي المستمر (Direct Current DC). وسرعان ما أثبتت محاولات التطوير، أن مصدرا أفضل للكهرباء كان أفضل، وتم توليد التيار المتردد (Alternating Current AC) عام 1831 عن طريق مولد بدائي، ولكن في الحالتين كانت المشكلة هي إنتاج مصباح كهربائي آمن وكفؤ ورخيص. وفي عام 1878 قرر أديسون الدخول في هذا المضمار، الذي لم يكن يعرف عنه شيئا، ولكن كان لديه عدد كبير من المختصين، الذين كانوا سينفذون أفكاره. ونجح أخيرا في إنتاج المصباح الكهربائي المطلوب، وأخذ يقوم بعروض ناجحة أمام الجمهور كدعاية للمصباح. ولكن هذا لم يكن كافيا له، حيث أراد أن يبيع المصابيح للجميع، ويبيع الكهرباء لكل منزل ومصنع في الولايات المتحدة، وينشئ المحطات لتوليد الكهرباء اللازم. واعتمد نظامه على التيار المستمر الذي كان لا يمكن نقله لأكثر من ميل واحد (1.6 كيلومتر) ما يعني أن محطة الكهرباء الواحدة لن تكفي سوى لتزويد منطقة صغيرة مكتظة بالسكان، وأن نشر الكهرباء لأبعد من ذلك كان سيتطلب إنشاء محطة جديدة بعد كل ميل واحد في جميع أرجاء الولايات المتحدة، بالإضافة إلى مشاكل تقنية أخرى. وكانت أول محطة أنشأها أديسون في المنطقة المالية في نيويورك عام 1882 لخدمة تسعة وخمسين زبونا.

التيار المتردد

لم يواجه نظام التيار المتردد تلك المشكلة، إذ من الممكن باستعمال تيار ذي 1000 فولت نقل تيار عبر مناطق شاسعة وبتكلفة قليلة. ولذلك، أراد المخترع جورج ويستنغهاوس تأسيس شركة منافسة لشركة أديسون، ولكن كان عليه اتخاذ الاحتياطات اللازمة لتجنب تعرض المستهلكين والعاملين في الإنشاءات الكهربائية لاحتمال الإصابة بالصدمة الكهربائية، التي يسببها هذا التيار. وكانت المشكلة الثانية الحاجة لمحرك يعمل على التيار المتردد بشكل متواصل وكفؤ، كي تعمل محطات الكهرباء بدون توقف. وصل عام 1884 شاب صربي إلى الولايات المتحدة يدعى نيكولا تيسلا، ولم يكن في جيبه سوى أربعة سنتات، وفي رأسه الكثير من الخبرة والأفكار. وعمل على الفور في شركة أديسون، حيث أثبت كفاءته، ما أثار إعجاب إدارة الشركة التي أبلغته أنه لو استطاع معالجة مشاكل المولدات الكهربائية، فإنها ستكافؤه بمبلغ خمسين ألف دولار. وانكب تيسلا على العمل حتى أنجز المهمة بنجاح بعد شهرين، وطالب الإدارة بالمكافأة الموعودة، ولكنه فوجئ بقول أحد المديرين إن الوعد كان عبارة عن مزحة، ما أثار حفيظة الشاب، فترك الشركة (مصدر قصة المكافأة هو مذكرات تيسلا، ولم يتم العثور على مصدر آخر لها لتأكيدها حيث قد يكون سبب مغادرته عدم اهتمامه بالتيار المستمر).
لكن تيسلا كان قد قضى فترة طويلة وهو يطور محرك التيار المتردد، قبل وصوله إلى الولايات المتحدة، ولذلك، وبعد جهود إضافية تلت تركه شركة تيسلا، حصل على براءة اختراع لمحرك جديد وطريقة جديدة لنقل التيار المتردد، وباع حقوقه من هذين الاختراعين لجورج ويستنغهاوس، بمبلغ مئتي ألف دولار، الذي يعادل خمسة ملايين دولار الآن. وبهذا الشكل أصبح نظام ويستنغهاوس، أرخص من نظام أديسون، فتفوقت شركته على منافستها لاسيما في المناطق البعيدة ذات الكثافة السكانية القليلة، بالإضافة إلى تقديم ويستنغهاوس أسعارا منخفضة جدا، متحملا الخسارة، ما جعل أديسون يستشيط غضبا، وكان انتقامه قاسيا، إذ أخذ يضغط على حكومات الولايات للحد من انتشار التيار المتردد لخطورته، ويحث الصحف على المبالغة في الحوادث التي صاحبت تركيب نظام ويستنغهاوس، حيث أدت إلى وفاة بعض العمال، كما اتفق مع أحد المهندسين الذي كان حاقدا على ويستنغهاوس، على القيام بعروض قاسية أمام الجمهور تضمنت كهربة كلاب ضالة وخيول حتى الموت، لإبراز مخاطر التيار المتردد. وكان ذلك المهندس هو من أقنع سلطات ولاية نيويورك لاستعمال الكرسي الكهربائي في إعدام المحكومين بالإعدام، واشترى مولدا مستعملا من صناعة ويستنغهاوس لعملية الإعدام. وقام أديسون بعد ذلك بإقناع الصحف الأمريكية بإظهار بشاعة ذلك الإعدام وخطورة نظام ويستنغهاوس على البشر. ووصل الأمر إلى قيام المهندس الحاقد بتحدي ويستنغهاوس، للتعرض لصدمة كهربائية من التيار المتردد. ولتهدئة المعارضين قام تيسلا بتعريض نفسه لخمسة وعشرين ألف فولت، بدون أي إصابة عن طريق استعمال المحول الكهربائي، الذي اخترعه لتغيير التردد وكمية التيار لتجنب الإصابة بمكروه. واستسلم أديسون في نهاية المطاف وقام ببيع شركته. وبعد ذلك نجح ويستنغهاوس في إقناع إدارة المعرض العالمي في شيكاغو عام 1893 بإنارة المعرض بالتيار المتردد. وقام رئيس الجمهورية الأمريكي بافتتاح المعرض وضغط على زر صغير ليضاء المعرض بأكمله، بطريقة بدت، بمعايير تلك الفترة، سحرية، وزار المعرض سبعة وعشرين مليون زائر على مدى ستة أشهر. وكانت لتيسلا خطط أخرى، حيث نجح في إقناع رجال المال في نيويورك لتمويل محطة كهرومائية على نظام التيار المتردد AC في شلالات نياغارا، وقام في الوقت نفسه بتزويد ويستنغهاوس بجميع المعلومات اللازمة عن المشروع كي يقدم عرضا (عطاء) لإنشاء تلك المحطة. واستطاع ويستنغهاوس إنهاء المشروع عام 1896، واستمرت المحطة في العمل حتى عام 1961، وبذلك سيطر نظام التيار المتردد AC على شبكة الكهرباء الأمريكية.

أديسون بعد حرب الكهرباء

بعد خسارة أديسون في هذه المنافسة باع شركته وتبنى مالكها الجديد تكنولوجيا التيار المتردد. وماتزال الشركة تعمل حتى الآن تحت اسم «جنرال ألكتريك». واستمر في اختراعاته وتسويقها، وكان من أشهرها اختراع الكاميرا السينمائية، بإسهام أساسي من أحد مساعديه، وبدأ بإنتاج أفلام قصيرة وثائقية تصور الحياة اليومية. وأسس أديسون كذلك شركة لتصوير الأفلام السينمائية وتأسيس دور عرض للأفلام عام 1908 واعتبر نفسه صاحب احتكار في هذا المجال. ولمنع الآخرين من منافسته وظف مجموعة من الأشخاص لتخريب دور العرض المنافسة، وحتى حرقها، فكان رد المنافسين اللجوء إلى عصابات المافيا المحلية للرد على رجال أديسون. وفي نهاية المطاف قرر أصحاب دور العرض المنافسة مغادرة نيويورك، والانتقال إلى إحدى ضواحي مدينة لوس أنجليس تدعى «هوليوود» حيث أسسوا شركات السينما الأمريكية الشهيرة حاليا.
حاول أديسون الدخول في مجال الصناعات الطبية كذلك عن طريق اختراع جهاز الفحص بالأشعة السينية، واستعان في ذلك بمساعده المعروف كلارينس ماديسون دالي، الذي كان له الفضل الأكبر في تصميم وصناعة الجهاز. وكانت ثقة أديسون ومساعده بالجهاز كبيرة إلى درجة أنهما عرضا نفسيهما للأشعة بشكل مبالغ فيه، ما أدى إلى وفاة المساعد في سن التاسعة والثلاثين والإضرار بعيني أديسون بشكل بالغ، وهو الذي كان يعاني من ضعف كبير في السمع أصلا.

تيسلا بعد حرب الكهرباء

بعد نجاحه اللافت للنظر انفصل تيسلا عن ويستنغهاوس، وحاول تأسيس نظام معقد لنقل الصوت والصورة، وحتى الأفلام السينمائية بشكل لاسلكي، ولكن أفكاره الطموحة، فشلت ما أدى إلى إفلاسه. وأثناء الحرب العالمية الأولى قدم فكرة إلى المجلس الاستشاري التابع للبحرية الأمريكية لنظام للعثور على الغواصات المعادية بالرادار، إلا أن المجلس رفض الفكرة، ولم يكن رئيس المجلس سوى غريم تيسلا القديم أديسون. وفي الواقع إن فكرة رادار تيسلا كانت مستحيلة تحت سطح البحر، ولكنها كانت ممكنة فوقه. ولذلك كانت مهامة في تطوير الرادار لاحقا. ولم تكن أيام تيسلا الباقية سعيدة، فقد صدمته سيارة أجرة وأصيب بأصابات بالغة، وهو في سن الواحد والثمانين عام 1937 ورفض مراجعة الطبيب، حيث كان يخشى الأطباء. وفي نهاية المطاف توفي معدما ووحيدا في غرفة فندق لم يكن قادرا على دفع أجرتها عام 1943. وأطلق اسمه على شركة تأسست عام 2003 لصناعة السيارات الكهربائية. وكذلك أطلق اسمه الأول على شركة أخرى لصناعة السيارات تأسست عام 2014. ولا علاقة للشركتين بالمخترع نيكولا تيسلا.

ويستنغهاوس بعد حرب الكهرباء

خسر ويستنغهاوس شركته بسبب الأزمة الاقتصادية عام 1907 واعتزل العمل حتى توفي عام 1914. وماتزال شركته موجودة تحت اسم مختلف.

حرب الكهرباءزيد خلدون جميلمقالات