أم كلثوم… أرض خالية وفضاء

إبراهيم عبد المجيد

في ذكرى وفاة أم كلثوم في الثالث من فبراير/شباط، منذ أيام فكرت في أن أكتب عنها. سهل جدا أن أعود إلى تاريخها ونشأتها وحياتها، وما قدمته من أعمال عابرة للزمان. لكنني وجدت نفسي أتذكر ليلة إذاعة حفلتها الغنائية، التي كانت تقام في القاهرة في سينما قصر النيل، أو الإسكندرية في سينما الهمبرا، وكيف كانت الشوارع بعد العاشرة مساء تصبح خالية إلا من متأخر يسرع إلى بيته، أو إلى جلسة مع أصحابه، وكيف كان الصمت ينزل على الدنيا ولا يصدح فيها إلا صوت أم كلثوم. كل الشوارع خالية والبيوت كأنها خيالات نائمة، وأعرف أنها تخفي قصص حب كبيرة، وسيعيش الذين جمعهم الحب ليلة رائعة، والذين فرقهم الحب سينامون على الدموع والأمل.
أكثر من مرة أعود متأخرا فأرى مقاهي صغيرة قليلة لا تزال مفتوحة، وكل الجالسين فيها على قلة أعدادهم، صامتون، ربما لا يعرفون أين يجلسون، مع صوت أم كلثوم الذي ينطلق من الراديو، كأنه مقبل من السماء. صرت أسال نفسي كثيرا بعد أن صرت حريصا على أن لا أتأخر في الخارج ليلة حفلتها، هل لا يزال أولئك الصامتون في جلستهم، وفي ما كانوا يفكرون؟ وبما كانوا يشعرون وهم يبدون لي أحباء صاروا وحيدين في الحياة؟
في أول شبابي لم أكن مفتونا بأم كلثوم، لكنني في سن السادسة عشرة ـ ولا أنسى ذلك العام ـ استمعت صدفة إلى أغنية «هو صحيح الهوى غلاب». كنت في منطقة صحراوية هي مديرية التحرير، حيث تعيش أختي الكبيرة مع زوجها الذي يعمل هناك، كنت أزورهما. حول البيت اتساع كبير من الفراغ، حتى الزراعات كانت بعيدة. حملني صوت أم كلثوم إلى السماء، وبعدها صرت عاشقا لها. صرت حريصا على أن أدير الراديو الساعة الرابعة عصرا، على ما كان يسمى وقتها محطة أم كلثوم، حيث تبدأ الإذاعة بأغنية لها، ثم تتالى أغاني المطربين الآخرين، وتنتهي في العاشرة مساء بأغنية الختام لأم كلثوم. صارت هذه المحطة أنيسي وأنا أذاكر في المدرسة أو الجامعة، ولم أكن قد اكتشفت البرنامج الموسيقي بعد، ولا الموسيقى الكلاسيكية، التي همت بها. يوما ما لا أنساه كنت أجلس على شاطئ البحر في حي الدخيلة ومعي صديق، كانت جوارنا أسرة معها راديو ترانزستور بدأت منه الموسيقى تتهادى. كانت الساعة الرابعة عصرا تقريبا وهو موعد بدء إذاعة أم كلثوم. سألني صديقي هل تعرف ماذا ستغني أم كلثوم، كنت شاردا مع لحن الأغنية وقلت «رباعيات الخيام». لم أكن أبدا قد استمعت إلى الأغنية من قبل، انتهت الموسيقى وسرى صوت أم كلثوم في الفضاء، «سمعت صوتا هاتفا في السحر.. نادى من الغيم غُفاة البشر» موسيقى رياض السنباطي أخذتني إلى الفضاء، في حالة من الصوفية التي تحتاج تجارب في العزلة والزهد العظيم. هكذا فعلت بي الموسيقى فعرفت الأغنية.
ما زلت رغم السنين سعيدا بهذا الانتصارالذي كان سببه موسيقى رياض السنباطي. صرت حريصا على أن أستمع إلى حفلاتها وأغانيها. أتمنى أن أتوقف كثيرا عند أغانيها كلها لكن لن يتسع المقال. كيف كان أحمد رامي وبيرم التونسي وغيرهما يكتبان هذا الشعر المفعم بالصور النادرة التكرار. ماذا يكون تعليقك على قول رامي «صُعُب علي أنام.. أحسن أشوف في المنام.. غير اللي يتمناه قلبي» في أغنية «رق الحبيب» التي لحنها محمد القصبجي. كم يقف أي فنان مندهشا أمام هذه الصورة وهذا المعنى.

الأمر نفسه حيث تسمع كلمات مثل «والموجة بتجري وراء الموجة عايزة تطولها. تضمها وتشتكي حالها من بعد ما طال السفر» في أغنية «فاكر لما كنت جنبي» لرامي أيضا ومن تلحين السنباطي، أو حين تسمع كلمات بيرم «يا نيل أنا واللي احبه نشبهك بصفاك.. لانت ورقّت قلوبنا لما رقّ هواك» من أغنية شمس الأصيل» التي لحنها السنباطي، أو «يشكوا ولا مخلوق سمع شكواهم.. إلا الكواكب فى السما سامعاهم… يطوّلوك يا ليل بالسهد والأفكار.. والشمس بعد الليل تطلع عليهم نار» من أغنية «أهل الهوى» من كلمات بيرم التونسي ولحن الشيخ زكريا أحمد. اما أغنية «الأولة في الغرام» فقصتها مؤلمة، حين مات ابن الشيخ زكريا الشاب وصار الشيخ زكريا عازفا عن الحديث، وشمله حزن كبير، فأخذت بيرم معها وذهبت إليه لعله يساعدها في إخراجه مما هو فيه. جلس بيرم منفردا وكتب الأغنية الرائعة وقرأها، فقام الشيخ زكريا إلى العود وراح يعزف باكيا وأخذته الأغنية من آلامه. من لا يشعر بالتيه والألم العظيم وهو يسمع «طالت عليّ الليالي وأنت يا روحي أنت.. لا قلت لي فين مكانك ولا حترجع لي امتى».
حكايات كثيرة وراء بعض أغنياتها من أبرزها أغنية «الآهات» حين تزوجت من الملحن محمود الشريف، واعترضت العائلة المالكة التي كانت قد انعمت عليها بالوسام الملكي، واضطرا للانفصال بسرعة. كتب بيرم «الآهات» وهي الأغنية الحافلة بكلمة «آه» وكل مصر كانت تعرف القصة، وكانت تستمع إلى الأغنية حين انطلقت لأول مرة في أربعينيات القرن الماضي، وكانت تبكي معها، مع آهاتها وقولها « ما احسبش دا كله فى يوم يضيع مني.. وأجري ورا ظله اللي ابتعد عني». حين تركتُ الإسكندرية لإقامة دائمة في القاهرة عام 1975 كنت ليلة حفل غناء أم كلثوم، تطاردني دائما ذكرى ومشهد مقهى لم يغلق أبوابه في ميدان محطة مصر في الإسكندرية، وأنا أعود أحيانا متأخرا وأرى فيه الجالسين صامتين مع صوت أم كلثوم، وأفكر كم من قصص حب وراءهم أو فراق.
في القاهرة وجدت ذلك في بعض المقاهي أيضا، لكن كان حرصي على الاستماع إليها مع أصدقائي أكثر. كنا أحيانا لو تأخرنا عن العاشرة نمشي في شوارع خالية تماما، كما كان يحدث في الإسكندرية وكل مصر، فالناس في بيوتها أو مقاهيها القليلة مع الصمت والشجن. كان تعداد الإسكندرية خمسمئة ألف والقاهرة اثنين مليون. تصورها الآن!
تردد موضوع تعاطي الحشيش لكثير جدا من مستمعي أم كلثوم في بيوتهم ليلة الحفل. كان هذا حقيقيا، وكانت ليلة حفلتها هي أكثر الليالي بيعا للحشيش، لكن ليس للسبب الساذج الذي قاله من أشاعوا ذلك وهو تخدير الناس عن السياسة، لكن الذين كانوا يفعلون ذلك هم الحشاشين، وكل ما في الأمر أنهم كانوا كأنهم متفقون على يوم واحد. وثانيا وبحكم تجربة التعاطي، ربما لتوحد أسرع مع متعة الفناء في العالم. كنا نخرج في المظاهرات التي لم تنقطع أيام السادات، لم تغيبنا أم كلثوم التي عشقناها، وظللت طول عمري أسخر من القول إنها كانت تساهم بأغانيها في تغييب الوعي.
لم أحب على عكس الملايين ألحان محمد عبد الوهاب لها، لا يعني هذا التقليل من شأنه كموسيقار عظيم، لكني كنت أشعر بجُملهِ اللحنية قصيرة لا تتسق مع صوت أم كلثوم الطويل والعريض القماشة، وكنت أشعر بأنها ألحان وضعت للرقص أكثر منها لمعاني الأغنية. لا أنسى ليلة سهرنا فيها عند أحد الأصدقاء نسمع أغنية «هذه ليلتي» التي كتبها جورج جرداق وشغلت الدينا كلها وقتها، لكنها حين غنت «بعد حين يبدّل الحب دارا.. والعصافير تهجر الأوكارا.. ودياركانت قديما لنا ديارا.. سنراها كما ترانا قفارا» شعرت بأن اللحن راقص يليق بنجوى فؤاد لا بالمعني المؤلم للكلمات. قلت لهم يكفي هذا، وخرجت ومعي صديق كانت له وجهة نظري، وجلسنا على شاطئ البحر في الليل في الإسكندرية، عبد الوهاب وأم كلثوم من فضائين عظيمين، لكنما مختلفان.

أرض خالية وفضاءأم كلثومإبراهيم عبد المجيد