خليل أينالجيك وتاريخ تركيا الحديث: عن كمال أتاتورك وأحلام داروين

محمد تركي الربيعو

في فترة الثلاثينيات من القرن العشرين، كان كمال أتاتورك قد قرر افتتاح كلية اللغات والتاريخ والجغرافيا في أنقرة، أما السبب، وفقاً للمؤرخ التركي المعروف أيلبير أورتايلي، فكان تولّد قناعة لديه بأن أي مشروع لكتابة التاريخ يتطلب إلماما جيدا بالجغرافيا واللغة، وهي رؤية يبدو أنها تولدت لديه من خلال تجربته في الجيش العثماني ولاحقا في حروبه الدبلوماسية التي خاضها. وبالفعل افتُتحت الكلية في عام 1935، وهو العام ذاته الذي كان فيه أحد الطلبة الأتراك ينهي دراسته في معهد المعلمين، ليلتحق مباشرة بصفوفها، كان اسمه خليل أينالجيك، وقد تمكن هذا الشاب في البداية من إعداد أطروحة للدكتوراه حول التنظيمات العثمانية وبلغاريا، قبل أن يكمل لاحقا ويصبح أستاذاً في الجامعة ذاتها لمنتصف السبعينيات.
بعدها أتيحت أمامه فرصة التدريس في جامعات أمريكية مثل بنلسفانيا وهارفارد، ليستقر لاحقاً في جامعة شيكاغو، وخلال هذه الفترة غدا من خلال أبحاثه واحداً من أهم علماء العثمانيات في العالم الأكاديمي الغربي، ومرجعا لكل الباحثين في هذا الفضاء. رغم هذه الشهرة، إلا أنّ معرفة العالم العربي به ستتأخر حتى فترة أواخر التسعينيات، وبداية القرن الجديد، مع ترجمة دراسة له من خلال مجلة «الاجتهاد الدولة والرعايا» ترجمة المؤرخ عبد اللطيف الحارس، ولاحقا مع كتابه «تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار» الذي ترجمه يومها المؤرخ الكوسوفي/السوري محمد م. الأرناؤوط، وبعد ذلك بسنوات سنتعرف على أينالجيك مرة أخرى من خلال ترجمة مجلدين بعنوان «التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للدولة العثمانية» كان أينالجيك قد شارك في إعداده إلى جانب أسماء كبيرة في هذا الحقل أيضا مثل ثريا فاروق وشوكت باموق ودونالد كوترات، وتطرّق فيه لدراسة الفترة التي عُرف بتخصّصه فيها، وهي الفترة الممتدة بين عام 1300 إلى 1600 تقريبا. وهنا يمكننا القول إن حظ تلميذه ألبير أورتايلي على صعيد العالم العربي بقي أفضل من حظ أستاذه خليل أينالجيك، فقد عرفت السنوات الأخيرة ترجمة كم جيد من الكتب التي ألفها أورتايلي وآخرها كتابه الغني حول مؤسس الدولة التركية «الغازي أتاتورك» الذي أعاد فيه قراءة حياة هذه الشخصية، بوصفه آخر الجنود العثمانيين. ووفقاً لأورتايلي، فإنّ أي فهم لأتاتورك لا يمكن أن يجري بدون الإحاطة بالمئة سنة الأخيرة من تاريخ الدولة العثمانية، فهو ابن الاصلاحات والإخفاقات، وتراكم التجارب التي شكّلتها هذه الفترة.

الفترة العثمانية الذهبية

واللافت أيضاً في ما يتعلق بخليل، ارتباط أعماله في ذهنية القارئ العربي بالفترة العثمانية الذهبية (1300/1600) بينما يلاحظ أن الرجل كتب أيضا عن فترات لاحقة، وأعدّ قراءات غنية حول فكرة الأعيان، كما انتقد نظرية ألبرت حوراني، الذي بالغ في قوة ودور القوى المحلية، في حين وجد هو، وحتى تلميذة حوراني (دينا خوري) أنّ هذه القوة لم تكن تعني غياباً للمركز، وهذا ما نلاحظه مع محمد علي، الذي استطاع تهديد عقر دار الدولة العثمانية قبل أن تتمكن الدولة لاحقاً من استعادة زمام المبادرة، وأيضا من إعادة فرض سيطرتها في مناطق عديدة، عبر خلق مؤسسات ونخب حكومية بدلاً من فكرة الاعتماد على الأعيان.

اللافت أيضا أن أينالجيك أبدى اهتماما بدراسة حياة أتاتورك، وما عرفته تجربته على صعيد حروب الاستقلال وإلغاء الخلافة. لكن يمكن القول إنّ هذه الكتابات بقيت مجهولة للقارئ العربي، وبقي التركيز أكثر على دراساته التي تتناول الفترة العثمانية المبكرة.
بعد وفاة أينالجيك عام 2016، عن عمر يناهز المئة سنة، نُشر له كتاب، يبدو أنه جمعه في أيامه الأخيرة، وتناول مواضيع مختلفة من تاريخ الدولة العثمانية، أهمها فترة القرنين التاسع عشر والقرن العشرين، وقد صدر هذا الكتاب بالإنكليزية والتركية في عام 2017، ليترجم للعربية بعنوان «السلطنة العثمانية وأوروبا» ترجمة إسماعيل كاظم، الدار العربية للعلوم، وقد شكّل فرصة من خلال بعض فصوله للتعرف على رؤية أينالجيك عن أتاتورك والبدايات التأسيسية، وهنا يجب ذكر أنّ هذه الدراسات لا تعد الوحيدة له في هذا الشأن، فقد صدر له في عام 2000 كتاب بعنوان «أتاتورك والديمقراطية التركية» تناول فيه صناعة هذا الزعيم للفضاء السياسي التركي الجديد، وعلاقة النخب بالشارع، ما يسجّل في الترجمة العربية الأخيرة أنّ الدار الناشرة والمترجم، وضعا اسما آخر للمؤلف (خليل اينالسيك) ما خلق حالة من الالتباس لدى عدد من القراء حول هوية المؤلف، وقد يرى البعض أنّ هذا الخطأ ثانوي، لكن مع ذلك، فهو يعكس ما وصل إليه واقع صناعة الكتاب في العالم العربي، فالدار مثلاً لم تكلّف نفسها عناء اطلاع أي مختص على الترجمة، وربما من المفارقات الغريبة أيضاً، أنّ الترجمة صدرت بالتعاون مع وزارة الثقافة التركية، مع ذلك يبدو أنّ الوزارة لم تنتبه لهذا الخطأ، على الرغم من أنّ أينالجيك ليس مجرد مؤرخ معروف، بل له رمزية في الحياة الثقافية التركية، وهذا ما عكسته مراسم دفنه الرسمية، ومواراة جثمانه في حديقة جامع الفاتح.

وبالعودة لولادة أتاتورك، يبدو اينالجيك قريبا من طرح اورتايلي على صعيد وضع هذه الشخصية في سياق القرن الأخير من تركيا، فهو يرى أنّ هناك استمرارية تاريخية مباشرة ما بين ثورة أتاتورك، على حد تعبيره، والتحديث العثماني، فالاثنان تشاركا بعض السمات العامة على صعيد التعامل مع المشاريع الإصلاحية، وإن بدا أتاتورك أكثر راديكالية بكثير. الللافت في ما يقدمه أينالجيك، أنه يوفّر، من خلال هذا الربط، صورة غنية بالتفاصيل والشخصيات حول فترة التحديثات العثمانية، وبالأخص مع انهيار الفترة الدستورية 1876 التي بدا فيها الشارع مؤيداً لهذه الخطوة، كرد فعل على الاستغلال الاقتصادي والمالي المتزايد من قبل القوى الغربية في ظل نظام الاستسلام الناتج عن انهيار البنية الاجتماعية والاقتصادية التقليدية التابعة لصناعة الحرف اليدوية والتنظيمات الطائفية.
من جهة أخرى، أخذ عدد من الشباب التركي ممن هاجروا إلى أوروبا يبحثون عن حلول علمية لمشكلة التغيير الاجتماعي في المجتمع العثماني عبر الاستعانة هذه المرة بمفاهيم علم الاجتماع الفرنسي، وهذا ما برز مع عالم الاجتماع التركي ضياء كوك ألب، الذي درس على يد دوركهايم، وأخذ يعتقد بضرورة النظر إلى التحديث على أنه ظاهرة علمية واجتماعية، وليس ظاهرة سياسية فحسب، لكنه في الوقت نفسه بقي متحفظاً حيال هدم أسوار الثقافة التقليدية بشكل سريع، «لأن التغييرات المفاجئة والقسرية التي تحدث لدى تبني حضارة أخرى قد تضعف النظام الوطني للقيم وقد تؤدي إلى فراغ وتحلل ثقافي». ومع قدوم فترة حقبة الاتحاد والترقي، عرفت الدولة العثمانية تقلصا كبيراً في حجمها، كما أدت حروب البلقان إلى حركة نزوح مأساوية في اتجاه الأناضول، وفي هذه الظروف، ظهر كمال أتاتورك الذي قاد حرب الاستقلال ضد دول الحلفاء، عسكريا، ولاحقا دبلوماسيا، ما جعله، كما يرى أورتايلي، متفوقا على جيل الضباط الأخير (أنور، طلعت، جمال) فهؤلاء لم يدركوا لعبة الدبلوماسية وأهميتها، بينما بدا أتاتورك أكثر حساسية تجاهها، وأكثر مهارة في إدارتها، لكن الجديد لن يقتصر على هذه الجوانب، وإنما في قراره، كما يرى أينالجيك، اختيار الطرق السريعة والحازمة في فرض إجراءات التحديث والتبادل.
أتاتورك بين الخلافة وداروين
وفي سياق إجابته عن أسباب إطاحة أتاتورك بالخلافة، يبدي أينالجيك حساسية وإحاطة دقيقة بتفاصيل أحداث تلك الفترة، والنقاشات التي دارت. فبعد الانتصار على الجيش اليوناني، طرح سؤال حول من سيمثل الدولة التركية في مؤتمر السلام المقبل؟ وهنا أخذ السلطان محمد السادس يطالب بهذا الحق، لكن أتاتورك وجد أنّ زمن المطالبة به قد ولى، وأنّ المجلس القومي الكبير هو من يمثل هذا الحق، وربما هذا هو السبب الذي دفعه إلى الفصل بين الخلافة والسلطنة، وإلغاء الأخيرة في (1 نوفمبر/تشرين الثاني 1922).

النقاشات حول الخلافة

بعد هذا القرار بأسبوعين هرب محمد السادس متمسكا بمنصبه خليفة للمسلمين، وفقاً لأينالجيك، ولم يُنف كما أشيع، فانتُخب عبد المجيد الثاني (وليس عبد الحميد أفندي كما يرد في النص المترجم) خليفة جديد، لكنه لن يكون كما في السابق. وربما الغني في رؤية أو طرح اينالجيك هنا، تسليطه الضوء على النقاشات حول الخلافة التي عرفتها تلك الفترة بين المفكرين، إذ وجد أحمد اغا أوغلو (البطل التركي والأذربيجاني) أنّ الرسول بذاته ميز، بشكل واضح، بين القضايا الدنيوية والدين، وأنه في أوائل الإسلام، تحت حكم الخلفاء الراشدين، كانت الخلافة انتقائية وتم الاهتمام بشؤون المجتمع الإسلامي من قبل جهاز استشاري. وانطلاقا من هذا التفسير، وجد كل مبادئ التغيير الكمالي في التراث الإسلامي، وهناك من المثقفين من وجد أيضاً ضرورة إبقاء الخلافة في حصانة الأمة التركية في أثناء هذه الفترة، لأنّ انكلترا حاولت لعب دور حامي الخلافة، وكانوا يؤيدون فكرة الاعتراف بالشريف حسين من مكة، ولذلك روّجت بعض الصحف التركية لفكرة أنّه لا يمكن للخلافة أن توجد وتنجو إلا عبر دعم دولة إسلامية مستقلة وقوية. واللافت في هذه النقاشات، أنّ أتاتورك بدا ميالاً لها في البداية، من خلال اعتماد حججها في خطاباته، اذ أكد أنّ الإسلام قد اعتمد على الشورى في الحكم وأنّ سلطة المجتمع هي السلطة الأولى في فجر الإسلام، لكنه لن يستمر طويلا في اعتماد هذا المدخل الإصلاحي التراثي، فقد بدا له أنّ استخدام لغة الإسلام من أجل الانقلاب، يشكل تناقضا وخطراً كبيرين لصالح أصحاب التقليد، الذين يجيدون الحديث فيه أمام الجماهير المتدينة، لكن القطيعة الكبرى مع تراث الإسلام ستحدث عندما مانع الحلفاء بعناد في مؤتمر لوزان إبطال الاستسلام على أساس أنّ تركيا كانت بلدا متخلفا، وما زالت تحت حكم الشريعة، ولذلك أعدّ على الفور لجنة للإصلاحات القانونية، وهنا نرى أنّ ظروف الأمة المهزومة، ومحاولة إنقاذها بكل السبل هي التي دفعت كمال للقطع مع إرث الإسلام، الذي بدا حجة عليه عبر قرار إلغاء الخلافة، ولذلك يرى أينالجيك ضرورة فهم موقف أتاتورك من الخلافة في هذا السياق، إذ أدرك كمال أنّ الكيان المستقل لأمته أمر يعتمد بشكل كامل على التحديث الشامل وأنه لا يوجد مبدأ أكثر أهمية من قانون البقاء في العالم. لكن هذه الرؤية وإن بدت تتعامل مع ظروف قاسية، إلا أنها ستؤسس في المقابل لفلسفته في الحياة، على أساس نظرية داروين للبقاء، فقد أخذ يؤكد في خطبه على أنّ الحياة ما هي إلا صراع، وأنّ النجاح في هذا الصراع، يعتمد على كون الشخص مهيأ للصراع، ولذلك يرى أينالجيك أنّ الكمالية من ناحية عقدية تأسست لاحقاً في الداروينية الاجتماعية، وهي بقدر ما ساهمت في التقدم وولادة تركيا الحديثة، فهي في الوقت ذاته أسست لحكم فاشتسي في سنوات ما بعد الاستقلال.

تاريخ تركيا الحديثخليل أينالجيكداروينمحمد تركي الربيعومقالات