من أشهر المسلسلات التي تصدرت قوائم التصنيف العالمي مسلسل «اختلال ضال» Breaking Bad الذي نال شهرة مدوية، ونسب متابعة تكاد تكون أسطورية، أو غير مسبوقة. هذا المسلسل الذي امتدت أجزاؤه إلى خمسة مواسم بدا للكثيرين مقاربة معمقة للإنسان المزدوج، أو القادر على أن يعيد اكتشاف نفسه في هذا العالم، فالرؤية تنطلق بما يمكن أن تنطوي عليه الذات البشرية من تناقض يكاد يكون صارخاً، فمع كل تحول يبقى الإنسان معرضاً للأسئلة القيمية التي تبدو جزءاً من تكوينه، ليحمل على الدوام قدراً من التنازع الداخلي المؤلم. هكذا تبدو صيغ المسلسل مفتوحة على تبديد مقولة، إن الإنسان كائن بسيط، إذ يمكن أن يفارق بين ليلة وضحاها تكوينه البيئي العميق، والأهم المبادئ التي أعتقد أنها راسخة.
وعي التحوّل
على الرغم من أن حبكة المسلسل تبدو على قدر كبير من المباشرة، كونها مبنية على مفارقة مركزها شخصية «والتر وايت» الذي لعب دوره الممثل براين كرانستون، بالتجاور مع شخصية «جيسي بينكمان» الذي لعب دوره آرون بول، بالتجاور مع العديد من الشخصيات لم تقل في توهجها عن أداء هذين الممثلين، بيد أن نمط سرد المسلسل وإخراجه، بدا باعثاً على التساؤل، من حيث قدرته على تمكين المشاهد في الانخراط في تواطؤ متعاطف مع شخصية «والتر» كونها تجسّد كل مسكوت عنه في وعي أي إنسان.
بعيداً عن ما حققه العمل من شهرة كاسحة، سواء من حيث نسب المشاهدة التي بلغت أرقاماً قياسية، اعترفت بها موسوعة غينيس، أو عدد الجوائز التي حققها، والضجة الجماهيرية التي وصل إلى حد الهوس، حيث رافقت الحلقة الأخيرة أنشطة مجتمعية رمزية، غير أنّ المسلسل في توجهه الخطابي بدا موجهاً نحو نقد منظومات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، ولاسيما على صعيد التكوين المؤسساتي، بالتوازي مع نقد المكوّن الداخلي للإنسان، وصراعه مع ذاته، والمحيط، وأخيراً اعتماد مقاربة تعتمد مبدأ التشويق المبني على نموذج الحبكة القائمة على مبدأ التدرج، ليبقى المشاهدون مشدودين إلى ما يمكن أن ينتج عن مآلات شخصية «والتر» ومغامراته التي بدأت بسيطة وخجولة ومترددة – وربما يمكن تفهم مبرراتها في عالم المخدرات – ولكنها انتهت إلى أن تتحول إلى فعل لا يمكن أن ينهض به شخص بسيط، إنما مجرم خطير، على الرغم من محافظته على قدر يسير من طابعه الإنساني، مصحوباً بفلسفة المبررات البراغماتية التي أوجدها لكل ما يقوم به؛ ما أضفى على الشخصية لمسة فلسفية ما.
تبدو لنا شخصية «والتر» على قدر كبير من البناء المحكم على مستوى الكتابة التي قام بها كاتب السيناريو، أو على مستوى التقديم من خلال المخرج، والأهم التجسيد الدرامي الذي أتقنه الممثل، ولاسيما في محاولة الحرص على عدم فقدان التواصل العاطفي للمشاهد، مع الشخصية المحورية التي بدأت في الحلقات الأولى مهزوزة ضعيفة، لتنتهي إلى أسطورة، ولكنه قبل ذلك، لم يكن سوى أستاذ كيمياء بسيط، يعمل في إحدى المدارس الثانوية أصيب بمرض السرطان، ولم يتبق له الكثير من الوقت. يدرك الأستاذ أن حياته سوف تنتهي، بدون أن يكون قد قدّم لعائلته شيئاً ما، ومن هنا تبدأ الأحداث، حيث يتحول ازدراؤه لطالب فاشل «جيسي» إلى علاقة بنيوية، خاصة بعد أن يدرك الأستاذ تداعيات ضعفه، وقلة حيلته في مجتمع فاسد ينطوي على استغلال، وبأن الثراء من نصيب الفاشلين، والمحتالين، وهنا يستذكر كيف أنه تخلى عن براءة اكتشاف كيميائي لصديقه من أجل مبلغ بسيط كان في أمس الحاجة له، في حين أن صديقه أثرى ثراء فاحشاً، وهكذا يقرر «والتر» بأنه لن يبقى أسير الضعف، فيتواصل مع الطالب ليبدأ رحلة (طبخ) مادة مخدرة تدعى (الميثامفيتامين) لتتوالى الأحداث، كي تعكس مقولة إن الإنسان كائن لا يمكن التكهن بحدود خياراته، وفي غمرة تأزم الشخصية وتشظيها، الذي لا ندركه مباشرة إنما نستشعره مع كل حلقة على امتداد المواسم، فنرى كيف يتحول «والتر» من شخصية ضعيفة وانهزامية، إلى أسطورة صنع المخدرات، بالتوازي مع كل عملية قتل لمنافسين ليتجلى على صعيد بناء الشخصية ضمن تكوينين: داخلي أو نفسي (الصراع الثنائي بين الخير والشر) بالإضافة إلى ظاهري شكلي من حيث ارتداء القبعة، وظهور ملامح الوجه القاسية.
المبرر والغاية
تبدو عمليات القتل من منظور «والتر وايت» مبررة، أو خياراً لا بد منه، ومن ذلك عملية قتل أكبر تاجر مخدرات، لكونها أقرب إلى محاولة الدفاع عن النفس، ولتمكين هذا الوجود بغض النظر عن العواقب الأخلاقية، وهكذا يبدو سر «والتر» في تشظيه عبر وجهين: وجه صانع المخدرات مع اسم مستعار، والوجه الآخر الأب (أستاذ الكيمياء) الذي يحاول أن يوازن بين هذين الوجودين المزدوجين. يثرى «والتر» ليعيش سلسلة من التقاطعات مع شريكه المدمن «جيسي» الذي نراه على النقيض من شخصية أستاذه، فعلى الرغم من تفاهة «جيسي» وإدمانه، وفشله، بيد أن نزعته الأخلاقية تبقى قائمة، فصراعه غير منجز على المستوى القيمي، على عكس أستاذه الذي يتحرر من المعضلة الأخلاقية كونه يسعى لتحقيق هدف محدد.
تبدو صيغ المسلسل الناقدة حين تكتشف (سكايلر) زوجة «والتر» تورطه في عالم المخدرات، وهنا نشاهد فصلاً جديداً من الصيغ الدلالية، حيث تطلب الزوجة الطلاق، وأثناء ذلك تقيم علاقة مع مديرها في العمل، وفي مشهد نرى كيف أن حياة الثراء التي تستهويها مع مديرها، على الرغم من اكتشافها بأنه مجرم أيضاً، فهو يقوم بتزوير الحسابات ليتهرب من الضرائب، وهنا نرى أن تناقضها يبدو عميقاً إذ تدرك أنها تمارس نفاقاً واضحاً، لتعود إلى زوجها، وتبدأ معه رحلة تبييض الأموال التي يجنيها من صنع المخدرات. في مشهد عميق الدلالة، نشاهد «والتر» وهو يسعى إلى إصلاح سخان الماء المهترئ، ليشتري سخانا جديدا وكبيراً، كما يشتري سيارة فارهة لابنه، لقد بدأ يستشعر متعة الحياة بالتوازي مع محاولة إسعاد عائلته بأمور مادية، فعلى الرغم من محاولته إصلاح أساسات أو قواعد البيت المهترئة من العفونة، بيد أن بيته حقيقة على المستوى المعنوي في طور التصدع والانهدام، إذ فقد عائلته، وتخلت عنه في نهاية المطاف.
إن محاولات إصلاح الأساسات المادية، ليس إلا عملية انعكاس للمجتمع المادي الذي ينتقده المسلسل بشكل واضح، ولاسيما عبر نقد نظام التأمين الصحي، والمنظومة التعليمية، وتخلي الدولة عن مسؤولياتها الاجتماعية، مع سيطرة تجار المخدرات على المناطق الحدودية، والأهم محورية شخصية تاجر المخدرات – صاحب المطاعم الشهيرة – الذي يمارس دوراً مزدوجاً، حيث يدعم شرطة مكافحة المخدرات من جهة، ومن جهة أخرى هو من أكبر التجار، وهكذا نخلص إلى أن أحد مقاصد المسلسل، تتمثل بأن لكل وجود بعدين، فمعظم الشخصيات تنطوي في دواخلها على نزعات تبدو مقنعة، بما في ذلك شخصيات: زوجة والتر، وابنه، وشريكه «جيسي» وأخيراً عديله الضابط في مكافحة المخدرات بغروره وادعائه، فضلاً عن شخصيته زوجته التي تمارس سرقة أشياء من المتاجر لنزعة مرضية ما، لندرك بأن لكل شخص خطيئة ما، أو جانبا مظلماً.
تبدو عملية التصوير مقنعة، من حيث اختيار إحدى الولايات التي تحاذي المكسيك على الحدود الجنوبية، وهي مدينة «ألباكيري» من ولاية «نيو مكسيكو» بجوها الصحراوي القاسي والمصفر، فتكون مسرحاً لأحداث المسلسل، الذي يعتمد مقاربة تحرص على إطار متوازن من حيث عدم المبالغة في الزج بمشاهد العنف على حساب المواقف الإنسانية، القائمة على التأمل، وتوليد الدلالات، فصانع العمل يعمل في إطار خفي لينتقل بين مستويات تبدو في معظمها متوازية، إذ تتكون من عالم خارجي يبدو هادئاً ووادعاً، وربما ساذجاً، ولكنه في بعد آخر يبدو شديد التعقيد، وغريباً وغامضاً، وفي بعد ثالث يبدو بشعاً، وعنيفاً جداً.
الاختلال الأخير
من المشاهد التي تبدو على قدر كبير من العمق الدلالي، الحوار الذي يقع بين «والتر» وزوجته، حيث تحاول الأخيرة أن تتفهم دوافع أعماله الإجرامية من حيث رغبته بمساعدة عائلته، ولكنه في لحظة ما يعترف بأن هذا الدافع كان قائماً، ولكنه بعد أن امتلك المال والقوة يجيب: «لقد فعلت ذلك من أجلي أنا… لقد أحببت ذلك».. لقد استهوته القوة، وأن يكون مهاب الجانب، وأن يمتلك هذا القدر المال الهائل، ففي أحد المشاهد يقول: لقد كنت طوال عمري أشعر بالخوف، أما الآن فقد تحررت منه نهائياً.. لا شك بأنها رغبة تسكن كل شخص منا! هكذا تبدو هذه شخصية والتر في هذا العمل، حيث تعيد ولادة ذاتها، فيفيد من ذكائه وحيلته وعبقريته في الكيمياء، ليتحول إلى عقل إجرامي مدمر، ولكن ينبغي ألا نسارع للحكم على «والتر» فهو ليس إلا نتاج فساد قيمي مجتمعي، ربما لا تكاد دولة تخلو منه، ومن هنا تبدو نزعة القوة لاستصدار الحق مبررة أحيانا – من وجه نظر «والتر» – الذي يتقاطع اسمه مع اسم أشهر شاعر أمريكي، ونعني «والت ويتمان» (1819- 1892) صاحب ديوان «أوراق العشب» حيث تلعب هذه العلاقة السيميائية دلالة كبيرة في انعكاس مركزية فلسفة الشاعر، ورمزيته على مسارات أستاذ الكيمياء، حيث يجسدان في تقاطعهما نوعاً من تكوين فلسفة تحولات فنهج «والتر وايت» يتوافق في رؤيته مع الصيغة الجدلية للشاعر الأمريكي الكبير، الذي بدأ متمرداً تنقل بين الرؤية المثالية للحياة والرؤية الواقعية، كما خرق أيضاً النماذج المركزية في الثقافة الأمريكية، عبر التوجه نحو فلسفة كونية تدمج بين المادة والروح، فهذا التماثل يتجلّى من خلال الأبيات الشعرية، التي يستشهد بها، كما يلعب هذا الكتاب درواً محورياً في حبكة المسلسل، حيث يسهم في كشف حقيقة «والتر وايت» في الحلقات الأخيرة لينتهي المسلسل بانتقام «والتر» من عصابة سرقت ماله، ووفاة عديله الضابط، ولكنه تمكن قبل ذلك من تأمين مبلغ جيد لعائلته، ضمن نهاية تبدو موافقة لتطلعات المشاهدين، عبر عدم محاولة كسر توقعهم، وتحميلهم خيبة كبيرة بعد مشاهدة مواسم طويلة، على الرغم من موت «والتر وايت» في المشهد الأخير.