هل كان كولومبوس مهرباً؟ سبعة قرون من نقل البضائع والكتب والممنوعات

 

محمد تركي الربيعو

أثار مسلسل «الهيبة» في السنوات الأخيرة، بأجزائه الأربعة، نقاشات واسعة حول طبيعة عمل المهربين والقيم التي يعيشون وفقها، ومدى صحة متابعة الجمهور لهذا النوع من المسلسلات، التي تنشر ثقافة العنف، وترسم صورة عن المهربين بوصفهم أبطالا وديعين وأصحاب هموم وطنية؛ إذ تدور أحداث الجزء الثاني من المسلسل حول رفض البطل جبل تمرير أسلحة ثقيلة باتجاه لبنان وسوريا، ليدخل في صدامات مع عصابات أخرى، وهذا ما ينطبق أيضا على الجزء الرابع عندما يرفض توزيع المخدرات، فكأنه يرسل رسالة تقول بأننا مهربون ولكن بشرف، وأنّ التهريب الذي نقوم به، كما يذكر المهرب اللبناني نوح زعيتر (جبل الحقيقي كما قيل) هو أسلوب حياة ناجم عن قرار اجتماعي في منطقته بضرورة التهريب، في سياق غياب الدولة وعدم توفيرها للخدمات وفرص العمل للشباب.
واللافت أنه في موازاة هذا المسسلسل، كان سوق الأغاني الشعبية يشهد إنتاج أغان تثني على التهريب أيضا، وعلى قيم البطولة في هذه المهنة، ولعل أشهرها أغنية وليد الأمير «أسياد الحدود» في إشارة للمهربين، التي تتحدث عن مهربين يقودون سيارتهم بسرعة كبيرة على طريق مدينة الريحانية التركية، باتجاه البلدات السورية، كما نعثر في أغاني مغني آخر يدعى محمد الشيخ، على أسماء عائلات بعض المهربين مثل البري، وأسماء اشخاص يحملون ألقاب الشيخ، ما يدل إما على خلفيتهم الاجتماعية/القبلية، أو على ظهور لاعبين محليين جدد، وعلى وجود مجتمع بأكمله اليوم يعيش من التهريب، وله ثقافته ولغته وشبكاته الخاصة، رغم أنّ إحدى الأغاني تؤكد فكرة أنّ هذا المجتمع ليس وليد الحرب وحسب، بل هو قائم منذ زمن طويل، إذ تقول كلماتها «من صغرنا شيوخ الكار/أي نعمل منذ الصغر في هذه المهنة» ولا شك أنّ تواتر هذه الأغاني قد ترافق مع الفوضى الحدودية التي تعيشها المنطقة منذ عدة سنوات في سوريا والعراق وتركيا وغيرها من المناطق.
عادة ما رسمت صورة عن العاملين في التهريب بوصفهم «زعران/بلطجية» أو خارجين عن القانون، وهو ما يلاحظ من ردة الفعل تجاه مسلسل «الهيبة» مثلا، ففي الوقت الذي يشهد فيه المسلسل إقبالا واسعا على متابعته، وعلى تكرار بعض كلمات بطله «خلصت/انتهت» في إشارة لقدوم أحداث درامية حاسمة، نرى أنّ موجة الكتّاب والنقاد، غالبا ما تحذر من انتشار هذه الثقافة، ومن أضرارها السلبية على الشباب، وعلى طريقة تفكيرهم. لكن خلافا لهذه الرؤية الأخلاقية، هناك من الباحثين والصحافيين من فضّل الاقتراب أكثر من عالم هؤلاء المهربين لفهم منطق عملهم، وطبيعة الأفراد العاملين في هذا المجال، وهذا ما ظهر مثلا من خلال التقرير الذي أعدته جريدة «واشنطن بوست» قبل عام من الآن عن أغاني المهربين على الحدود السورية التركية، كما كان هذا الموضوع محل اهتمام الصحافية الفرنسية ليلى مينانو في كتابها «التضحية بتدمر» الذي تتبّعت في أجزاء منه حياة «علي بابا والأربعون حرامي» في إشارة للمهربين الذين عملوا في تهريب جوازات السفر والدخان والآثار. مع هذا الاهتمام الغربي بعوالم التهريب في سوريا والمنطقة عموما، وفي دراسة مجتمعات الحدود ودورها في دعم هذا الجانب، لا نعثر بالمقابل على شغف مواز لدى الصحافيين والباحثين العرب، وهذا ناجم برأينا عن صورة بقيت تنظر لهذا الجانب بوصفه جانبا مذموما، بدون أن نهمل أيضا أنّ قرار الخوض فيه لا يعدّ يسيرا ويحتمل أخطاراً كبيرة.

وفي سياق هذا الفقر في دراسات عوالم التهريب، بوصفها عوالم أنثروبولوجية، وتاريخية، تأتي مؤخرا ترجمة كتاب المؤرخ البريطاني سيمون هارفي «التهريب: سبعة قرون من نقل الممنوعات» ترجمة ماهر جنيدي/مشروع كلمة للترجمة، لتشكّل أول نص معرفي واسع في العالم العربي حول حيوات التهريب والمهربين وصورتهم في المخيال الشعبي، ودورهم الاقتصادي والثقافي والاجتماعي.

هل كان كولومبوس مهربا؟

بهذا السؤال الجريء والمفاجى يبدأ المؤلف كتابه، فهو يؤكد أنّ كولومبوس قد لا تنطبق عليه مواصفات المهرب المعتاد على عبور الحدود، حاملا على ظهره أكياساً مليئة بالملح أو القماش؛ مع ذلك لنا أن نتصور أنّ دوافع كولومبوس الأولى من العثور على طرق أخرى لتوابل الهند، كانت تتعلق بالتهريب ونقل توابل الشرق بطرق سرية تتيح للإسبان تقويض السيطرة العربية والإيطالية على تجارة التوابل.
يرى المؤرخ هارفي أنّ ثمة بحوثا أنثربولوجية واجتماعية وسياسية متزايدة، تتناول تدفقات الممنوعات بجميع أنواعها، وليس فقط الخطرة منها، لأنّ تاريخ التهريب يكشف أهمية دور هذه المهنة والعاملين فيها في صنع العالم الذي نعيش فيه، وتغييره إلى الأفضل أو الأسوأ، وبالتالي فالكتاب هو محاولة لتوسيع تاريخ التهريب وتعميقه. الجميل في هذا الكتاب، أنّ المؤلف يتمكن من مرافقة بعض المهربين في الفترة الممتدة بين القرن السادس وبدايات القرن العشرين، لمعرفة ما الذي كانوا يهربونه ومعرفة خلفية كل شخص منهم، وأسمائهم، لدرجة تثير الدهشة لقدرته على الإلمام بكل هذه التفاصيل، وجمع مئات الوثائق والسجلات عن حياتهم. نكتشف معه مثلا أنه في القرنين السادس عشر والسابع عشر، كان الفرنسيون يهرّبون الكتان والصابون والشمع، بينما كان الهولنديون يهرّبون الملح لحفظ سمك الرنجة، وهو عنصر أساسي في نظامهم الغذائي. وفي هذه الفترة احتكر الإسبان تجارة البحر الكاريبي، ولذلك كانوا يلاحقون هؤلاء المهربين، حيث قاموا في عام 1603 باصطحاب سفينة التهريب الإنكليزية ماري إلى ميناء في كوبا، وجرت تعرية قبطانها وربطه إلى شجرة قبل أن تقطع أوصاله إربا، مع ذلك بقيت عمليات التهريب قائمة. كما نتعرف أثناء السير في بحور التهريب على يوميات وسير ذاتية لبعض المهربين في بداية القرن العشرين، مثل سيرة المهرب هنري دي مونفريد المعنونة بـ«اللؤلؤ والأسلحة والحشيش» التي يروي فيها أنّ هذا العالم يتموج بين دوافع المغامرة الرومانسية والمقاومة والربح.

تهريب الأفكار والبذور

يناقش المؤلف في أجزاء من الكتاب دور التهريب في صناعة الأفكار، وانتقال الزراعة، ففي عام 1747 أغوى البرازيلي فرانسيسكو دي ميلو باليتا زوجة حاكم فرنسي في الجزيرة العربية لمنحه بذور البن، التي عاد بها إلى الوطن، لتنشأ على إثرها صناعة البن في البرازيل من هذه السرقة. كما نتعرف على قصة تهريب بذور وشتلات الشاي الصيني، عبر عالم نباتات بريطاني يدعى روبرت فورتشن، الذي قام بارتداء لباس من الحرير وأضاف ضفيرة (ذيل حصان) إلى شعره، وهي رمز الخضوع لأحد الشعوب الصينية، ليتمكن من الدخول إلى أحد أديرة المنطقة، والتعرف على أسرار إنتاج الشاي، وقد عدّ عمله يومها شأنا وطنيا، للآثار المترتبة على استيلاء الإنكليز على زراعة الشاي في مستعمراتهم في الهند وشرق افريقيا.

وكان للمهربين دور في إيصال أنبل الأفكار وفق تعبير المؤلف، فقد نقلوا أعمال فولتير عبر جبال جورا من جنيف إلى فرنسا، التي كانت تغلي قبل الثورة. كما قام ألماني يدعى رودولف أكرمان بتهريب كتب إلى أمريكا اللاتينية في زمن حروب الاستقلال، بدءاً من عام 1825 فصاعدا، وساهم أيضا بتزويد متمردي فنزويلا بمطبعتين، وفي هذا السياق أيضا نكتشف أنّ رواية «الدكتور جيفاغو» للروائي الروسي بوريس باسترناك، قد هرّبت في عام 1956 خارج روسيا من قبل الفيلسوف أشعيا برلين، لتفوز لاحقاً بجائزة نوبل للآداب في عام 1958، كما نقلت كتب إيروتيكية مثل رواية «فتاة الملذات». وربما من المفاجآت التي نكتشفها في هذا الجانب عثورنا على مهرب فرنسي في جيبوتي، وبعد البحث في قصته سنعلم أن هذا الرجل هو آرثر رامبو، الذي كان له مسار رائع ومشرق في الشعر، ومع هذا الاكتشاف، تكون قد حلّت قصة العقدين السابقين الضائعين في حياة رامبو، قبل وفاته في مرسيليا.
يقارن هارفي في سياق آخر بين صورة المهربين وضباط الجمارك، وهنا نلاحظ أن صورة المهرب غالبا ما ارتبطت بالبطولة على مرّ التاريخ، وهو شعور يتغلغل في مجالات واسعة من فنون التعبير، من أدب وأغان وأفلام، كما نعثر على الموقف ذاته في أحد كتب المؤرخ الاجتماعي أريك هوبسبام «قطاع الطرق» عندما يأتي على ذكر مهرب يدعى روبير مندران بالقول، «كان مهربا مهنيا» وعلى النقيض من ذلك، تظهر صورة ضباط الجمارك دائما سلبية، وغالبا ما يصور الرجال الذين يحاولون منع التهريب على أنهم غير أكفاء، أو مملون، أو بائسون، أو كريهون.

جنود ومهربون

في سياق علاقة الجنود بالتهريب، نتعرف على قصص عديدة حول هذه العلاقة، بدءا من حروب نابليون بونابرت، الذي أنشأ في 30 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1811 مدينة للمهربين، وكان يعيش فيها إنكليز وفرنسيون ومن كل الأشكال، ويعملون بتهريب الجنيه الإنكليزي لخلق أزمة اقتصادية في لندن، كما أنهم قاموا أحيانا بتهريب أسرى فرنسيين وصحف إنكليزية. وخلال الحرب العالمية الثانية، أنشئت كتائب سوفييتية بهدف واضح يتمثل في نقل جزء كبير من ثروة ألمانيا الثقافية، وكانت الكتائب مؤلفة من مؤرخي فنون وأكاديميين يبحثون عن قطع فنية، بينما كان هناك جنود يعملون على نقل سلع ثقافية، نظر لها لاحقا بوصفها تمثل خطرا على العامة، ومن بين هذه المهربات نعثر مثلاً على راديو وأجهزة تلفون لاسلكية ودراجات سكوتر، ودرجات هوائية، وآلات موسيقية. كما نعثر في التسعينيات على سوق أريزونا في البوسنة بالقرب من الحدود الصربية، وقد أنشئ هذا السوق بعد أن رأت قوات الناتو الجانب الإيجابي للتداول المرتجل عند مفترق الطريق، ودوره في جعل الناس يتحدثون ويتداولون مرة أخرى، بعد اتفاقات دايتون للسلام في عام 1995، وقد أطلق عليه اسم أريزونا لأنه يقع على الممر الفاصل الذي أقامه الجيش الأمريكي، وقد كان لهذا السوق في السنوات الأخيرة جوانب قاتمة، فقد أصبح مركزا لجمع النساء من البلقان ورومانيا وغيرها والاتجار بهن كرقيق أبيض.
وكما أدهشنا المؤرخ بقدرته على جمع معلومات واسعة حول المهربين في التاريخ، فإنه سيعود في الفصول الأخيرة ليصطحبنا في جولات أثنوغرافية داخل أسواق التهريب اليوم في العالم، كما تطرق أيضاً لتجربة حزب الله اللبناني، قبل أن يكمل طريقه إلى شوارع إسطنبول، بين حي أمينونو والشوارع المحيطة ببرج غَلطة، ليتركنا في نهاية هذه الرحلة العجيبة أمام حيرة حيال أسلوب المؤرخ البريطاني وقدرته على تحويل عوالم هامشية ومخفية، إلى عالم غني من الأحداث والأفراد والقصص.

محمد تركي الربيعومقالات