«تغريبة» حاتم علي الفلسطينية… صورةُ النكبة في أذهاننا

سليم البيك

الحديث عن غياب النكبة، كحكاية، في السينما الفلسطينية، يعيدنا إليه رحيلُ المخرج السوري الجولاني الفلسطيني حاتم علي، وهو صاحب العمل الأشمل في تناول النكبة الفلسطينية في السينما والتلفزيون. الأشمل لطبيعة المسلسل (31 حلقة، 50 دقيقة لكل منها) بالمقارنة مع السينما، فتناولُ النكبة، أو عامَها، يستلزم مراحل سابقة لها وكذلك لاحقة، كتصوير زمن الاستعمار البريطاني، وما تخلله من هجرة يهودية إلى فلسطين، وما رافق ذلك من مواقف وهبات وتوترات، وتحديداً ما لحق النكبة، وفي السنوات الأولى بعدها، وقد دخل أكثر من نصف الشعب الفلسطيني حياةً ثانية في اللجوء والمخيمات.
فلا يمكن سرد النكبة، بشمولية نسبية، سوى بتصوير لما سبقها وما لحقها، وهذا ما يعطي المسلسل، لطبيعته، صفة الشمولية مقابل السينما المحصورة، عموماً، بساعتين أو ثلاث ساعات أو أكثر، إن سُمحَ للمخرج (لأسباب إنتاجية وتوزيعية) ذلك.
كان للمخرج المصري يسري نصرالله تجربة استثنائية في تصوير النكبة، وهي الأشمل سينمائياً، وذلك في فيلم «باب الشمس» المأخوذة حكايته عن رواية اللبناني إلياس خوري، لكنه فيلم تزيد مدته عن 4 ساعات ونصف الساعة، ما يساوي فيلمَين طويلَين، وهو لا يقتصر على تصوير تهجير الفلسطينيين، بل يعود إليها في «فلاشباك» مطول، في زمن راهن للعمل الفدائي الفلسطيني، بذلك لا يكون الفيلم شاملاً في استعادته للنكبة، لما سبقها وما لحقها من أحوال الفلسطينيين، مَن تهجر منهم ومَن بقي على أرضه.
لا يُطالَب أي فيلم في أن يكون شاملاً. هذا المعيار يكون، إن أردناه وبمرونة، في حال المسلسل بحلقاته التي تساوي في مدتها (في حال «التغريبة الفلسطينية») 13 فيلماً، بساعتَين لكل منها. هنا، نستطيع، زمانياً على الأقل، تقديم تصوير مفصل لحياة الفلسطينيين ما قبل النكبة وما بعدها، ومنحَ اللحظة التراجيدية أثناءها، مساحَتها.
المسلسل والفيلم صناعة عربية تامة، ففي كل من «التغريبة الفلسطينية» و«باب الشمس» جهد عربي متكامل ومتنوع، من الكتابة إلى التقنيين والممثلين. وكما كان الفضل الأساسي في إنجاز فيلم «باب الشمس» لرواية إلياس خوري «باب الشمس» قبل أن تكون للإخراج الممتاز والخاص ليسري نصرالله (مع خطأ جوهري في اختيار الممثلة لشخصية نهيلة) فالقيمة العالية لمسلسل «التغريبة الفلسطينية» تعود لمؤلفها وكاتب السيناريو لها الفلسطيني وليد سيف، قبل أن تكون لمخرج العمل المتميز عربياً، ولعله الأفضل في الإخراج التلفزيوني العربي، حاتم علي.

لا ينتقص ذلك من عمل كل من المخرجَين، بل يعطي للعمل الكتابي والتوثيقي، حيث تكون للغاية الشمولية مساحاتها الشاسعة، بمعزل عن أي تحديدات إنتاجية، وحيث يكون الجانب البحثي الكتابي أولوية، وهو من بين النقاط الأهم في تناول مرحلة تاريخية كما هي النكبة. يبقى إنجاز كل من المخرجَين هو التكييف الأنسب قدر الإمكان، والأشمل، للنص القيم المكتوب، وحديثنا هنا عن نصين تاريخيين، فالخيال في الشخصيات والأحداث، وذاتيتها، تبقى خاضعة لسياقات ووقائع تاريخية موضوعية تتحكم فيها.
ولكون الفيلم هنا أعلى قيمةً جمالياً، لطبيعته السينمائية، فهو فيلم فني ومعروض في «مهرجان كان السينمائي» عام 2004، فمقارنة المسلسل به غير صالحة من حيث فنية العمل، فقد اعتمد المسلسل في تصويره على التوثيقية، مبتعداً عن الفنية، ولعله لذلك نجح أولاً في الالتصاق بالجانب التوثيقي للنص، بدون انحرافات فنية (مرغوب فيها في الفيلم) وفي كسب الجماهيرية ثانياً، فهو يبقى مسلسلاً تلفزيونياً ورمضانياً ومعروضاً للعائلة، وهذا كان إنجاز المسلسل الأول.
«التغريبة الفلسطينية» خرج أخيراً بالشكل الأنسب له، مسلسلاً للعائلة، يحكي عن النكبة بالتعقيدات الأقل الممكنة،
بتصوير الحالات الاجتماعية السائدة آنذاك، ما قبل النكبة وما بعدها، بالقدر الممكن لجميع أفراد العائلة، وهو ما جعل المسلسل المعروض كذلك في 2004، واحداً من المراجع الفنية أو التعريفات البصرية لمفهوم النكبة، التي وصلت إلى جماهير كما لم يكن لفيلم أو كتاب أن يفعل، وهنا يكمن فضل مخرج لامع كحاتم علي، وهو الأقدر، لسيرته المهنية ما قبل «التغريبة» وما بعدها، على تصوير نص سيناريو شامل حول النكبة.
يميل حاتم علي إلى الملاحم، وإلى التاريخ، إلى النصوص الممكن، مع مخرجين مثله، تحويلها إلى مراجع فنية للمشاهدين، فما لا يصل من خلال الكتاب إلى جماهير تشاهد ولا تقرأ، أو تشاهد أكثر مما تقرأ، يصل بالمسلسلات، وهذا ما فعله في مسلسلات تعاونَ فيها مع كتاب بارزين ومختصين ـ بشكل ما ـ في التاريخ، كممدوح عدوان ووليد سيف (وإبراهيم نصرالله في مشروع لم يكتمل هو «زمن الخيول البيضاء»). من هذه المسلسلات «الزير سالم» الذي كتبه عدوان، و«صلاح الدين الأيوبي» و«صقر قريش» و«ربيع قرطبة» و«ملوك الطوائف» و«عمر» وهذه كلها كتبها وليد سيف.
لم يلتفت صناع الأفلام الفلسطينيون إلى النكبة كموضوع أساسي، كما يجب، باستثناء فيلم واحد هو «الزمن الباقي» لإليا سليمان. بمعزل عن فيلم سليمان، العملان الأهم حول النكبة كان الفيلم والمسلسل موضوعي هذه المقالة، والعمل الأكثر تأثيراً في المشاهد العربي، الأكثر تشكيلاً لصورة النكبة في ذهن العربي، العمل الأكثر تاريخية وتوثيقية ومرجعية وجماهيرية، كان مسلسل الراحل حاتم علي «التغريبة الفلسطينية».

التغريبة الفلسطينيةحاتم عليسليم البيكمقال