رامي أبوشهاب
قبل أيام حلت ذكرى رحيل المترجم الفلسطيني صالح علماني، الذي تمكن من أن يختلق عالماً سرديا نوعياً عبر ترجمة استهلكت وجوده كي يجترح زاداً جمالياً ومعرفياً للعقل والمتخيل العربي المعاصر. لقد بدا صالح علماني على قدرٍ كبير من الأهمية لا بوصفه مترجماً فحسب، إنما بوصفه أديباً قادراً على تمكين فعل الاختيار، واجتراح لغة تكاد تتمايز في قدرتها على خلق عوالم السرد، تبعاً لحاسته، ووعيه المعرفي بالترجمة، وأدواتها، ولكن الأهم من ذلك الحب الذي بدا لنا واضحاً في كل ما ترجم.
القيمة والضآلة
من روائع الأعمال التي ترجمها صالح علماني رواية «قلم النجار» للروائي الإسباني مانويل ريفاس (1957) ـ أحد رواد الموجة الجديدة للكتابة – الرواية تنتمي إلى تلك الأعمال التي تدفع القارئ للبحث عن مصدر تفردها، على الرغم من أنها لا تنتمي إلى فئة الأعمال المغرقة بالموجهات الأيديولوجية الصاخبة، أو بمحاولة بناء نص سردي شديد الإغراق بالممارسة المرهقة لعملية الكتابة، بحيث تطغى النماذج الإجرائية على التمكين الإمتاعي للعبة السردية. إنها من طينة الأعمال التي تمتص وعي المتلقي لا تبعاً للموجه الفكري، بل لكونها تفتح قدراً من الانغماس للتواطؤ مع فضائها، وشخصياتها، التي تبدو لنا مجسّدة للواقع، علاوة على ما يكمن فيها من نبض يدفعنا لمحاولة تأسيس إجراء نقدي، للحكم على الشخصية في إطار تحركها في المتتاليات السردية، والأهم تكوّن فضاء وعيها في التاريخ الذي تتولى تمثيله.
تستهلك الحرب الإسبانية الأهلية قدراً غير مسبوق من الفاعلية المتخيلة، ونماذج التأطير للحقبة الزمنية الأكثر قتامة في تاريخ إسبانيا الحديث، ففي الرواية ثمة تكوينات تمتزج فيها اللغة الشعرية المسكونة بمتعالية ذات طبيعة لا تختلف كثيراً في نهجها عن أدب الواقعية السحرية، ولكن مع قدرة على كبح المبالغة المفسدة.
الرواية تتملكها شخصيتان محوريتان هما، الطبيب المناضل والثائر الدكتور «داباركا»، وشخصية الحارس «هيربال». تبدو شخصية الأول مثقلة بمناخات من اختلاق نموذج متعدد الأبعاد، يمتد في السرد بلا عناء، ليكون رمزاً ثورياً وإنسانياً وجمالياً، يطغى على بشاعة القتل والتدمير، ففي حوار بين الضابط والحراس «هيربال» حول شخصية هذا الطبيب، نقرأ نموذجاً يلخص واقع الطبيب، حيث يقول أحد الضابط: «طبيب في مستشفى الإحسان البلدي. أستاذ مساعد في كلية الطب. فضلاً عن كونه كاتب منشورات ومحاضراً، ورجل اجتماعات حاشدة، ينتقل بين المستشفى والمركز الجمهوري، ويبقى لديه متسع من الوقت مع ذلك ليأخذ خطيبته إلى السينماتوجراف في مسرح الأمير. وهو صديق حميم للرسام، ذلك الداعية الغاليسي، صاحب اللوحات الدعائية، يرافق الجمهوريين، والفوضيين، والاشتراكيين والشيوعيين، ولكن، إلى أي لعنة ينتمي هذا الرجل؟».
وهكذا يسعى الحارس بكل ما أوتي من قوة للتقاطع مع مصير الطبيب، الذي ينتقل من معتل لمعتقل، حيث يجد الحارس طريقة ما للبقاء قريباً منه، وعلى الرغم من أن بين الشخصيتين المحوريتين أفق نابض بالصراع، بيد أنه مثقل بالدلالات التي تنتقل في متن النص، ونعني محورية (قلم النجار) الذي ينتهي بيد الرسام الذي يسعى لرسم العالم، وما تحتفي به شخصياته من آثار، تتصل بشيء من الحلم والفرح، وربما الكثير من الحزن، كما نقرأ أيضاً في محاولة الرسام رسم عوالم المجانين في مستشفى الأمراض العقلية، وما يمكن أن ينتج من وقائع تفضي بها مخيلة المجانين.
في المستشفى يتعرف الرسام على الطبيب، ومن ثم يتزاملان في المعتقل، وهكذا يبدو القلم حافلاً بنزعة رمزية حيث يعود القلم ـ في الأصل – للنجار «أنطونيو بيدال» الذي دعا للإضراب من أجل ثماني ساعات للعمل، كما كتب في القلم لبعض الصحف، والرجل ناشط ضمن طبقة العمال، كما كان تحررياً وإنسانياً، ومن ثم أهدي القلم لنجار آخر لينتهي بيد الرسام الذي رسم المناضلين، وهم يعبرون بوابة المجد.
يصف الرسام لسان أحد الضابط بأنه خطير: «كيف يكون خطيراً؟ هذا شخص غير قادر على أن يدوس نملة. وماذا تعرف أنت؟ رد الرقيب بغموض؟ إنه رسام الملصقات إنه يرسم الأفكار». ولعل هذا ما يبرر قتله على يد «هيربال» الذي يضعنا في حدود جدلية القيمة الإنسانية، حيث يرى أن قتل الرسام برصاصة في الرأس جاء بهدف تخليصه من العذاب، أو التمثيل بجثته، ففعل القتل يتكئ على ذكرى طفولية، حيث كان يصاحب الحارس عمه في صيد الحيوانات، وهكذا تبرز صيغة استعارية تتخذ تموضعها في وعي «هيربال» النفسي، حين أخذ القلم الذي يضعه الرسام على أذنه، ليتحول حضور الرسام (الميت) إلى خطاب يتجلى على هيئة صوت داخلي يحاور «هيربال» في محطات كثيرة… إنه صوت الضحية الذي يلاحق الجلاد، في حين ثمة صوت متخيل آخر، ونعني (الرجل الحديدي)، وهنا إحالة إلى ثنائية ما تكمن في وعي الإنسان تغذّي كل منها جانباً ما: «عندما يغيب الرسام المرحوم يسعى الرجل الحديدي جاهدا لاحتلال رأس الحارس».
هي حوارات تنضح بموقف قيمي، ولكن الأهم أنها تأتي من داخل تلك الحاسة التي تعيد تقييم أفعالهما، فشخصية «هيربال» مسكونة بالرغبة بالانتقام، والقتل، وهي أيضاً أسيرة ماضيها، أو أزمتها التي تمتد من الطفولة، ما يحيلنا إلى فهم دوافعه ورغبته أو هوسه بالطبيب، وملاحقته من معتقل إلى معتقل، والتطوع لقتله، وتعذيبه، على الرغم من نجاة الطبيب في مناسبتين، ما أضفى على وجوده نوعاً من الأسطورة.
تعدد المقاصد السردية
تنفتح الرواية على حضور الطبيب، وهو مريض عجوز يتهيأ للقاء صحافي ليتأكد نموذج السرد القائم على الاسترجاع، في حين نرى الحارس «هيربال»، وهو يعمل في بار، يرسم على مناديل ورقية بقلم النجار، وأثناء حوار مع زميلته في العمل، يحكي لها جزءاً من الحكاية، وفي المقابل يشرع الطبيب في محكيته التي تشي عن انتمائه الجمهوري، وميوله اليسارية منتقداً مفهوم الحدود التي تفصل بين الدول كونها وهمية، ونتيجة كولونيالية، بينما الحدود الحقيقية هي تلك التي تمنع الفقراء من الوصول إلى الكعكة، هكذا نرى وعياً ينتمي إلى منظور فكري عميق لدى الطبيب الذي ينشأ في السياق السردي بوصفه دالة ثقافية ورمزية، مع نزعة إنسانية متفائلة مضادة للخيبات والهزائم، وحتى الموت. إنه مزيج من روح التفاؤل التي تتضمنها الرواية، على الرغم من سوداويتها وكآبتها، ولكنها تحتمل هذه الأفضلية السردية في عدم نشوء الاختلال أو الإغراق في رسم النموذج، إنما يبقى طافياً على السطح، يتجرعه القارئ بتمهل عبر اللغة، والسرد الشديد الإيجاز بحدود ربما تبدو لي عصيّة على التفسير.
تبدو منحنيات السرد شديدة الحساسية، حيث نرى ذلك التحول لدى «هيربال» عند عملية نقل الطبيب إلى معتقل في جزيرة، هنا يتواطأ «هيربال» مع زميله الحارس فيسمحا للطبيب بأن يلتقي زوجته في أحد الفنادق في المدينة، على أن يعود في الصباح. هذه الليلة التي تبدو لنا عالما يظهر من عتمة الموت والظلام، وأصوات الضحايا الذين خلقتهم أجهزة الجنرال فرانكو، ونظامه الدموي، غير أن هامشية الحب تمسي تعبيراً شعرياً يطفو على مشهدية الموت، والتنكيل والنماذج الفاشية والنازية التي وسمت أفعال الانقلابيين، أو قوات الجنرال فرانكو، على الرغم من انتصارهم بالحرب التي استمرت من عام 1936- 1939. يشار إلى أن زوجة الطبيب تبدو نمطاً صلداً من النساء، على الرغم من تكوينها الشعري من حيث الجمال والرقة، غير أنها بدت مؤمنة بزوجها والقيم التي يحارب من أجلها، ولعل وجودها يحيل إلى بطولة مستترة للمرأة، التي تكاد تتفوق على حضور زوجها، على الرغم من ثقله السردي بوصفه شخصية محورية في العمل.
تحتكم الرواية إلى الكثير من القضايا التي بدت في ذلك الزمن مثار جدل، فثمة إشارات إلى تموضع المرأة وحقوقها، والنزاع الطبقي، والتجاذبات الماركسية، واستعلاء النماذج الفاشية والنازية، وجدل تطور الإنسان، وغيرها من الأفكار، ففي إحدى الحوارات نشعر بمستوى عميق من القراءة للحيوات الإنسانية، على الرغم من تنازعها، ومنها صرخة امرأة في وجه «هيربال» بعد قتل زوجها: «صرخت به امرأة جاثية أمام زوجها الميت، وعيناها محمرتان: أيها الجندي، أنت شعب أيضاً. وفكر هو: أجل هذا صحيح، اللعنة على الشعب، اللعنة على البؤس».
إن تكوين «هيربال» بمواجهة الطبيب يقود إلى تمثل نفسي ينتج عن عقدة ما، حيث تجتمع البشاعة والبؤس، إذ نلمح إشارة، حيث يوصف الحارس بأنه ينتمي إلى عالم أو بيت يخلو من الجمال، والحب، وفي المقابل ثمة حسد محوره خطيبة الطبيب التي توصف بأنها أجمل امرأة في العالم، ما يعمق سياق القتامة التي خطت حياة «هيربال» التي عمقتها استرجاعات وحوارات داخلية، بدت إضاءات لعكس مناخ انقسام إسبانيا، ومخاضها الحضاري في تلك الفترة.
في المحطة الأخيرة من تتبع حياة الطبيب في السجون، نراه يُقاد إلى سجن جزيرة سان سيمون، التي لا يعود منها أحد! مع أن الطبيب يرى الجزيرة مهد الرومانسية التي خرجت منها أعظم قصيدة عرفتها البشرية، كما يوضح المترجم صالح علماني في الهامش، حيث يشير إلى أنها قصيدة من العصور الوسطى للشاعر ميندينيو تتغنى بامرأة تنتظر مجيء حبيبها وهي محاطة بالأمواج، وهكذا تنتهي الرواية في مشهد نرى فيه «هيربال» في حانة يقرأ نعي الطبيب الذي أفرج عنه في الخمسينيات، في حين أن صوت الرسام قد عاد إلى «هيربال» ليخبره بأنه وجد ابنه الذي يرسم لوحات أمومة، تحيل إلى الأمل، كما أن صوت الرسام عينه، يهمس لـ»هيربال» مشجعاً إياه على إهداء قلم النجار لزميلته في الحانة، فيبدو هذا الفعل رسالة انتصار الحب على ما عدا ذلك… لتتضح لنا دلالة قصة هامشية وردت في الرواية عن فتاتين اسمهما (حياة وموت)، انفصلتا بسبب عشق الفتاة (حياة) شاباً يعزف على أكورديون، وصل إلى الشاطئ بعد تحطّم سفينة في البحر.