لعلّ من بين الشواهد الأثرية المهمة في بلاد المغرب العربي، قلعة بني حماد الجزائرية، التي احتفلت عام 2007م بمرور ألف عام على تأسيسها، حيث شيّدت أركانها عام 1007م (398هـ)، ويختزن هذا المعلم الفريد عشرة قرون من الرصيد الحضاري الإسلامي ومرايا التاريخ في منطقة المغرب، منذ حوَّل القائد الشهير “حماد بن بلكين” القلعة المذكورة إلى عاصمة سياسية وإدارية لدولة الحماديين، وصنَّفتها منظمة “اليونسكو” ضمن نفائس التراث الإنساني. وما زالت قلعة بني حماد بالجزائر من الشواهد التاريخية الماثلة إلى اليوم لتحكي قصصا خالدة ومشرقة من تراثنا الإسلامي المجيد.
تاريخ بناء قلعة بني حماد:
تُعدُّ قلعة بني حماد عاصمة ثاني دولة تقوم بالمغرب الأوسط (الجزائر) بعد الدولة الرستمية، حيث بنيت في سياق التطورات السياسية والاقتصادية لدولتهم. تقع القلعة على بعد 20 كم شمال مدينة المسيلة، وقد أسَّسها حماد بن بلكين بن زيري الصنهاجي البربري، بموجب الاتفاق الذي أبرمه مع “باديس بن المنصور بن بلكين بن مناد الصنهاجي” سنة 395هـ / 1004م، وأنضجت أولى ثماره بعد ثلاث سنوات ميلاد منارة القلعة كثاني دولة مركزية تتأسس في المغرب الأوسط. حيث استأثر حماد بن بلكين بولاية الجزائر الشرقية في عهد الدولة الزيرية الصنهاجية عام (398 – 419هـ /1007 – 1029م).
وقد بُنيت القلعة الحصينة بين عامي 398هـ / 399هـ / 1007 و1008م على سفح جبل المعاضيد، وسط سلسلة جبلية لتكون صعبة المنال نتيجة مسالكها الوعرة. وتحدث ابن خلدون في تاريخه عن مراحل تطورها، فأشار إلى أن حمادًا أتم بناءها وتمصيرها على رأس المائة الرابعة, وشيد بنياتها وأسوارها, واستكثر فيها من المساجد والفنادق، وأن الناصر بن علنّاس بني المباني العجيبة المؤنقة, وأن المنصور بني فيها قصر الملك والمنار الكوكب وقصر السلام.
موقع استراتيجي هام:
وتتميز قلعة بني حماد التي تقع في الحدود الشمالية لسهول “الحضنة” بموقعها الاستراتيجي الهام، فهي من الشمال محمية بجبل تاقرست الذي يبلغ ارتفاعه (1418 مترًا) ومن الغرب بجبل قرين (1190 مترًا) ويحيط بها من الشرق وادٍ, بشكل مضائقه سورًا طبيعيًا للمدينة, أما من جهة الجنوب فإن الطريق الوحيدة المؤدية إلى القلعة عبارة عن ثنية ملتوية تتبع “وادي فرج” ولذلك كان ابن الأثير دقيقًا حين وصفها بأنها: “من أحصن القلاع وأعلاها, لا ترام على رأس جبل شاهق, يكاد الطرف لا يحققها لعلوها”.
ويؤكد المؤرّخون أنّ اختيار هذا المكان ليكون عاصمة للدولة الحمادية لم يكن من باب الصدفة، وإنما تمّ بناء على معطيات استراتيجية شديدة الأهمية، بمفهوم ذلك الزمان، كان أساسُها الأول المُعطى العسكري، حيث عمد حماد بن بلكين، مؤسس الدولة إلى إقامة عاصمته “قلعة بني حماد” بالقرب من سوق حمزة المشهور؛ بهدف جعل حياة الناس سهلة داخلها، وقد حقّقت هذه المدينة صفة كان من النادر أن تحقّقها المدن في ذلك الوقت، وهي صفة التعايش بين جميع الطوائف والأعراق المختلفة التي وحّدها الدين الإسلامي.
وذكر صاحب كتاب الاستبصار أن بني حماد لهم بالقلعة مبان عظيمة, وقصور منيعة متقنة البناء عالية السناء. واشتهرت القلعة بالفلاحة, وتربية المواشي والصناعة والنشاط التجاري, ووصف الإدريسي الجغرافي أهلها بأنهم أبد الدهر شباع، وذلك لغناها بالحبوب, وقد لخص ابن خلدون ما اشتهرت به القلعة في كلمات موجزات فقال: “استبحرت في العمارة, واتسعت بالتمدن، ورحل إليها من الثغور القاصية والبلد البعيد طلاب العلوم, وأرباب الصنائع؛ لنفاق أسواق المعارف والحرف والصنائع بها”.
وقد سجّل الإدريسي الجغرافي شهادته في (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) حين مرّ بقلعة بني حماد قائلا: “مدينة القلعة من أكبر البلاد قطرًا، وأكثرها خلقا، وأغزرها خيرا، وأوسعها أسوارا، وأحسنها قصورا ومساكن، وأعمها فواكه، وخصبا، وحنطتها رخيصة، ولحومها طيبة سمينة، وهي في سند جبل سامي العلو صعب الارتقاء، وقد استدار سورها بجميع الجبل ويسمى تاقريست، وأعلى هذا الجبل متّصل بسيط من الأرض”.
إشعاع علمي وحضاري:
وحسب المصادر التاريخية فإن قلعة بني حماد عرفت إبان القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي إشعاعا كبيرا على المستويات الثقافية والعلمية والاقتصادية. فقد حاول حماد بن بلكين أن يبذل قصارى جهده لجعل قلعته، زيادة على كونها عاصمة لدولته، منارة وقبلة للعلم والعلماء، ليحقق حلمه الأكبر في تشكيل دولة كبيرة تمتدُّ إلى القيروان شرقاً وفاس غرباً، حيث لم يكن بمقدوره أن يؤسّس دولة قوية في مواجهة الدولة العباسية، ما لم يعتمد أساسا على استقطاب العلماء عن طريق مدينة لها مواصفات حواضر ذلك الزمان، وهذا ما تحقّق له فعلا، حيث استقطبت القلعة الكثير من العلماء على غرار العالم اليهودي عبد الرحيم ابن إسحاق ابن المجلون الفاسي، والشاعر العالم أبو الفضل ابن النحوي.
وذكر ياقوت الحموي القلعة، فقال: “ويتخذ بها لبابيد الطيلقان جيدة غاية، وبها الأكسية القلعية الصفيقة النسج الحسنة المطرّزة بالذهب، ولصوفها من النعومة والبصيص بحيث ينزّل مع الذهب بمنزلة الإبريسم” اهـ. وقال جورج مارصي: “وحوالي سنة 457هـ / 1065م صارت القلعة مدينة تجارية عظيمة وارفة الخيرات، وقصدها أرباب الصنائع من المشرق وإفريقية، ويظهر أن صناعة الفخار يومئذ بلغت بها مبلغا عظيما ويظهر عليها تأثير الفرس ومصر فنا وعملا، وجد بها من ذلك آثار كثيرة، ثم ترقَّت الصناعة وتطورت حسب تطور الدولة في العظمة” ا.هـ.
وامتدّت رقعة الدولة الحمادية على كلّ من إقليم الجزائر الحالية تقريبا والمغرب الأقصى وتونس، وبقيت قلعة بني حماد عاصمة لها إلى غاية سنة 454هـ / 1062م، حيث شهدت الدولة أوج توسُّعها، ثم قام خامس ملوكها الناصر بن علناس (454 – 481هـ/1062 – 1088م) بنقل عاصمتها إلى بجاية التي أصبحت بعدها عاصمته الناصرية، وكان ذلك إيذانا بسقوط قلعة بني حماد مع الزحف الهلالي نتيجة نشوب خلافات بين حكامها عام 547هـ / 1152م. وخلال القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي بدأت مكانة قلعة بني حماد تضمحلُّ لفائدة مدينة بجاية، ثم نُهبت وخُرّبت من طرف الموحّدين، وأصبحت لا تُذكر في المصادر بعد نهاية ذلك القرن.
الهندسة المعمارية لقلعة بني حماد:
تشهد الهندسة المعمارية للموقع والتحف التي أنجزت به على اختلاف التأثيرات التي عرفتها القلعة والتي يمكن ربطها بتنوع الاستقرار البشري بها. حيث شكل الصنهاجيون وهم أبناء عمومة الحماديين في البداية طبقة ذات امتيازات داخل المدينة التي يتعايش فيها سكان قدموا من المدن المجاورة كمسيلة وسوق حمزة. ويبدو أن مجموعة أخرى كانت تعيش معزولة عن الآخرين في الحي الذي يوجد به قصر المنار، يتعلق الأمر بقبيلة جراوة البربرية التي كان أهلها -حسب ابن خلدون- يدينون باليهودية أو المسيحية، وأخيرا هاجر إلى القلعة خلال القرن 11م سكان من القيروان من بينهم بعض اليهود. أعطى هذا التمازج عدة معالم هامة كالجامع الكبير وعدة قصور من بينها قصر المنار، وصهريج لتخزين المياه وعدة تحف وأشياء نفعية إضافة الى خزفيات ذات بريق معدني .
تمثل قلعة بني حماد مثالا جيدا يجسد مفهوم المدينة -القلعة التي تستفيد من طبوغرافيا الموقع، بحيث تحيط بها جبال ذات منحدرات وعرة يصعب تجاوزها كما أن الموقع الممتنع محاط بسور متين مبني من الحجارة وتخترقه ثلاثة أبواب رئيسية. واحد من هذه الأبواب لازال واقفا وهو يتوفر على دهليز مستطيل وتلتصق به بناية كانت تستخدم من طرف الحرس.
أنجزت التهيئة العمرانية للمدينة بأربع مجالات سفلية على شكل أحياء تتوفر كل واحدة منها على قصر: قصر المنار وقصر البحر وقصر السلام وقصر النجمة. وفي الجانب العلوي يمتد قلب المدينة حيث يوجد قصر البحر والجامع الكبير والحمامات. أما الجزء الجنوبي للتلة وهو الأكثر انبساطا واتساعا، فكان مخصصا للأسواق ويوضح الموقع الجغرافي الوعر للموقع قلة مواد البناء التي أعيد استعمالها.
انكب الباحثون المهتمون بالموقع (أمثال الجنرال دوبيليي، جورج مارسي، لوسيان جولفان، رشيد بورويبة) على دراسة أصول الأشكال الهندسية التي تم اكتشافها. فهناك عدة عناصر تم ربطها بإيران: الأقواس والقباب على جنبات ركنية والكوات الكبيرة ذات الأقواس الدائرية من البرج الرئيسي وقصر المنار. أما بعض العناصر مثل تصميم أبواب القصور التي تكون فيها مقدمة البناية مزينة بكوات نصف دائرية تفصلها دعامات، فتجد أصلها في بوابة مسجد المهدية بإفريقية وبوابة مسجد الحاكم بالقاهرة (القرن 4هـ / 10م) . ويبرز تأثير الفن المصري في القلعة من خلال بعض عناصر الزخرف من الزخارف النباتية. أما الكوات النصف أسطوانية كثيرة الاستعمال خلال الفترات الفاطمية والزيرية والنورمندية بصقلية. والكوات ذات العمق المستوي التي نجد لها لها مثالا في قصر الأخيضر بالعراق وبالقيروان والمهدية وصفاقس بتونس. كما نجد ارتباطا بالأندلس من خلال التيجان المركبة ومن خلال تنظيم المدينة في شكل مدرجات والتي تذكرنا بمدينة الزهراء.
وإذا كان الباحثون قد رأوا في زخارف المدينة وأشكالها الهندسية تأثيرا للشرق الإسلامي، فإن للفن الحمادي مميزاته الخاصة التي نقلها إلى صقلية وإسبانيا. وبالفعل، فقد كانت ثلاثة قرون قبل قصر الحمراء في غرناطة، تصنع وتستعمل بالقلعة الحنيات الركنية لنصف القباب والنقوش الجبصية والخزفيات المزججة بالأزرق والأبيض.
معالم قلعة بني حماد:
ولأنّ قلعة بني حماد كانت مركزا للحضارة الحمادية، فإنّ بناياتها كانت أوسع وأكثر تعقيدا من تلك الموجودة في مواقع أركيولوجية مماثلة، ومن بين هذه البنايات نجد القصر الذي كان مشهورا آنذاك والذي يتكوّن من ثلاث بنايات موحّدة ويُعدّ شاهدا على المستوى الرفيع للمهارة الهندسية التي كان يتمتّع بها الصُنّاع، وهي المهارة التي تعلّموها من صفوة التجار الذين عاشوا في الإمارات الحمادية.
وترتسم على حيطان القلعة مجموعة من الأشكال الهندسية التي تختزل ما وصلت إليه روعة العمارة الإسلامية آنذاك، والتي تمازجت فيها العمارة التي كانت سائدة بالشرق الإسلامي، خصوصا في مصر والعراق، وتلك العمارة التي طوّرها الأندلسيون، الذين تفنّنوا في صناعة الأقواس وخط آيات قرآنية على الحجارة.
ومن معالم القلعة كذلك سور القلعة الذي تم الانتهاء من بنائه سنة 400هـ / 1010م، والمسجد (الذي لا زال يعتبر لحد الآن الأوسع بالجزائر) وقصر العروسان وقصر بلارة وقصر البحيرة وتم الانتهاء من بنائهم بين سنتي 454 – 482هـ/ 1062 – 1089م، وقصر المنار وقصر نجمة السلامة وتم الانتهاء من بنائهما بين سنتي 482 – 498هـ / 1089 – 1105م.
واللافت أنّ ما خلّفه عدد من الكتّاب الفرنسيين أمثال “لوسيان جولفان” و”جورج مارسي”، اقتصر على الطابع العمراني الأثري لمساجد وقصور ومنتزهات القلعة، دون الولوج إلى مكتنزاتها وما كانت تتوّج به مجالسها ومساجلاتها. ولعلّ ما زاد الطين بلّة، هو ضياع أعمال مؤرخي الدولة الحماديين. وتنفرد مدينة المسيلة أيضا، بقصر الأمراء البديع الذي يتكوّن من ثلاثة أجنحة للإقامة، تربطها قاعات وحدائق ونظام رائع لتوزيع المياه.
ترميم قلعة بني حماد:
تعرَّضت قلعة بني حماد على مدار تاريخها الطويل، إلى أحداث جسام، منذ الاصطدام الذي حصل في الزمن القديم بين البربر والعرب الهلاليين، مرورا بموجة التدمير الذي لحق قطاعا مهما من هياكلها في القرنين الخامس والسادس الهجريين، وصولا بما طالها القرن الماضي بسبب الاحتلال الفرنسي للجزائر، بيد أنّ القلعة ظلت صامدة شامخة واستوعبت قوافل من العلماء والفقهاء والشعراء والمتصوفين، وأقام بها في مختلف الفترات مزيج من السكان المحليين وكذا من وفدوا إليها من الدول المغاربية المجاورة، ما مكنّها بحسب جمهور الباحثين والمؤرخين من التموقع كعاصمة لحواضر الشمال الإفريقي وملتقى لمختلف تجليات الحياة الثقافية والنتاج الفكري، حتى أنّ الشاعر “ابن هاني الأندلسي” امتدحها وردّد قولته المأثورة: “قلعة بني حماد جنة الله في أرضه”.
وبالرغم من تصنيف قلعة بني حماد من طرف منظمة اليونسكو سنة 1980م ضمن المواقع المهمّة التي وجب الاهتمام بها، على غرار حيّ القصبة العتيق بالجزائر العاصمة، إلا أنّ قلعة بني حماد تشهد، من يوم إلى آخر، تدهورا في وضعيتها بفعل عاديات الزمن، وأيضا بفعل العوامل البشرية، حيث أصبحت القلعة مقصدا للعائلات التي تتخذ منها أماكن للاستجمام والراحة، وكثيرا ما لا تعبأ هذه العائلات بالحفاظ على القيمة الأثرية لهذه القلعة، الأمر الذي قد يُعجّل بزوال هذا التراث الإنساني المهم.
وفي عام 2007م دعا ممثل ديوان قلعة بني حماد فى الذكرى الألف، إلى مواصلة الحفريات في قلعة بني حماد التي لم يكتشف منها إلى غاية اليوم سوى 20 بالمئة من الآثار، مبينا أن 70 بالمئة من قلعة بني حماد مازالت غير مكتشفة ومدفونة تحت الأرض. كما أشار إلى أن فرنسا هي التي كشفت النقاب عن قلعة بني حماد خلال الفترة الاستعمارية، وأنه ومنذ الاستقلال لم يتم تنظيم سوى عملية حفر واحدة قام بها رشيد بورويبة خلال الفترة الممتدة ما بين عامي 1964 و1972م، وهي العملية التي أشرفت وزارة الإعلام والثقافة آنذاك على تمويلها.
وفي سنة 1982م، تمّ وضع تصميم من أجل ترميم الموقع من طرف منظمة اليونسكو، وأيضا في سنة 1987م، حيث اتّجهت بعثة جزائرية وبولونية لترميم القلعة وإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، لكنّ الواقع أثبت أنّ أجزاء كبيرة من القلعة تضرّرت وبشكل كبير، فالمسجد الكبير لم يعد كبيرا كما كان، حيث لم تبق منه إلا المئذنة، التي ما تزال شامخة لحدّ الساعة، والحفريات التي بقيت تقام هنا وهناك من طرف باحثي الآثار والعلماء وطلبة الجامعات.
كان جلُّ ما يُعثر عليه ويُستخرج يُوجّه إلى خارج الجزائر، فأول حفرية بالقلعة كانت على يد “بول بلانشي” سنة 1987م، ثم “لوسيان قولوفان” ما بين 1950 و1960م، لكن ما وجده هذا الأخير وُجّه إلى متحف الباردو بباريس، وهذا بسبب غياب الشعور بأهمية هذا التراث الإسلامي في الجزائر. ولم تحظَ القلعة بأيّ اهتمام يُذكر أو ترميم جدّيّ، عدا بعض المحاولات هنا وهناك سنة 1974م، حيث رُمّمت صومعة المسجد الكبير التي تُعدُّ نسخة مطابقة من مسجد إشبيلية.