بقلم توفيق الرياحي _
غدا ستصدر محكمة الجزائر العاصمة حكمها على الناشط السياسي المعارض كريم طابو في قضايا تتعلق بنشاطه السياسي، كُيّفت تحت بنود المساس بالأمن العام والوحدة الوطنية. انتهت المحاكمة منتصف الأسبوع الماضي، لكن القاضية قررت تأجيل النطق بالحكم أسبوعا آخر. أيًّا كان الحكم، سيدين النظام ولن يدين أحدًا غيره. هي محاكمة النظام قبل أن تكون محاكمة طابو. البراءة ستكرّس الاعتقاد السائد بأن النظام يلفق الاتهامات لخصومه جزافا وظلما بشكل يجعله أكثر استبدادا وتشددا مما كان عليه الحال في عهد المخلوع. وستعني البراءة كذلك أن على النظام أن يستعد لمعارك جديدة مع طابو لأنه عائد إلى العمل السياسي لا محالة، وبإيمان وتصميم أكبر، ولأنه ليس من صنف السياسيين الذي يؤثِرون السلامة ويعودون إلى بيوتهم عند أول امتحان. أما الإدانة والحكم بإبقاء طابو في السجن فسيعني إطالة عمر الأجواء المسمومة التي فرضها النظام مع ما يرافقها من تداعيات سلبية، لأن الرجل رمز لشيء مهمّ عند كثير من الجزائريين، وليس مجرد شخص.
قبل طابو أصدرت محاكم الجزائر، وبعده ستصدر، عشرات الأحكام بحق الناشطين الذي برزوا خلال الحراك كرموز وقادة محتملين، من الرجال والنساء. أغلب هؤلاء زُجَّ بهم في السجون في عهد قائد أركان الجيش السابق، الفريق أحمد قايد صالح، وبوحي من خطاباته المتشددة في الثكنات منذ قرر تولي زمام البلاد بيده وحده بعد أول شهرين من الحراك. زُجَّ بهؤلاء في السجون بتهمٍ واهية، جاهزة، من قبيل المساس بالوحدة الوطنية، على الرغم أن الوحدة الوطنية لم تكن يوما بخير كما هي مع الحراك.
يجوز القول إن فترة قايد صالح كانت فترة التعسف والاعتقالات أولاً، ثم تلفيق الاتهامات الخطيرة، وحتى المضحكة، ثانيا. أما فترة ما بعد الانتخابات الرئاسية وتولي عبد المجيد تبون الحكم، فهي فترة التخلص من تلك الاعتقالات التي أصبحت بمثابة عبء مربك وثقيل تركه قايد صالح ورحل. لهذا لم يكن التخلص من أولئك المعتقلين بالتعجيل بمحاكمتهم وإصدار أحكام «مقبولة» بحقهم، تراوحت بين البراءة وفترات سجن تتماشى مع المدة التي قضوها في المعتقلات، لم يكن التخلص منهم منّة من تبون أو دليلا على انفتاح سياسي أو أي شيء من هذا القبيل (في عهده تزايد عدد الموقوفين، لكنه ترافق مع محاكمات وحالات الإفراج).
كان كل ذلك جهدا للتخلص من عبء مسموم، حتى وإن كان مكلفا للنظام، ويحمل مخاطر عودة بعضهم إلى الحراك السياسي. لكن في المجمل، الإفراج عنهم أقل كلفة من الإبقاء عليهم في السجون، خصوما إذا كان النظام قد تلقى تعهدات من بعضهم بالتهدئة والابتعاد عن الحراك.
الاعتقالات الكثيرة التي طالت ناشطين في الحراك الشعبي والجامعي علامة جيدة على أن النظام لم يتعلم شيئا من أخطائه الكثيرة والكارثية. السجون، في الجزائر وفي غيرها، مدرسة سياسية ومسرح يرسم فيه السجين خارطة طريقه بعد استعادته حريته. في السجون يتكوَّن السياسيون ويعيدون ترتيب أولوياتهم، في الغالب باتجاه أكثر تصميما. وفيها يتسيّس الأميّون ويستيقظ المحايدون. وهناك أيضا تكوَّن واقتنع عتاة الإرهابيين، ويزدادون تصميما على إرهابهم. (من لندن قبل شهرين إلى تونس الأسبوع الماضي، نسمع أن منفذي الأعمال الإرهابية خرجوا من السجن قبل أيام أو أسابيع). وفي السجون كذلك تتبلور شخصيات المخبرين والجواسيس وتبدأ رحلة عمالتهم عندما ينجح النظام في إغرائهم بتوظيف نقاط ضعفهم والاستفادة من إحباطاتهم واضطرابهم.
نجح النظام الجزائري في تجنيد مساجين وشحذهم كمخبرين، خصوصا من الإسلاميين والإرهابيين في تسعينيات القرن الماضي، ووظفهم في حربه القذرة آنذاك. لكن إذا واصل الاعتقاد بأن ما صحَّ ونجح قبل 25 عاما أو أكثر، سينجح اليوم، فهو أكيد على ضلال ولم يتعلم شيئا من دروس التاريخ والسياسة. والأسوأ أنه لا يعرف مدى تغيّر مجتمعه.
هذا الغباء المستفحل جعل فضيل بومالة وطابو والآخرين أحرارا في زنزاناتهم ومَن أمروا باعتقالهم سجناء في «حريتهم». الذين اختاروا ذروة الغضب الشعبي وقرروا اعتقال رجال ونساء كهؤلاء ظلما، وإبقاءهم في زنزانات انفرادية شهورا طويلة بلا محاكمة، أطلقوا النار على أقدامهم. لم يفعلوا شيئا سوى زيادة منسوب الإصرار عند مَن سجنوهم ومنسوب الغضب لدى الحراك الذي كانوا من أبرز وجوهه. يكفي أن نرى كيف أثمرت محاكمة بومالة وطابو عكس النتيجة المأمولة من اعتقالهما، وتحوَّلت إلى مهرجان شعبي وسياسي، داخل قاعة المحكمة وخارجها، شكّل فضيحة أدانت النظام وزادت من شعبية الذين أراد هذا النظام إنهاءهم.