saudialyoom
"تابع آخر الأخبار السعودية والعربية على موقع السعودية اليوم، المصدر الأمثل للمعلومات الدقيقة والموثوقة. انضم إلينا الآن!"

فراغ تملؤه أميركا

35

بقلم نورالدين خليفة النمر _
تعتزم الولايات المتحدة وفقا لما كشفته صحيفة نيويورك تايمز، نقلا عن مسؤولين أميركيين، تقليص وجودها العسكري في غرب إفريقيا إلى حد لافت. وفيما رأته الصحيفة ضربة للقوات الفرنسية التي تقاتل الجماعات المتطرفة فإن التقليص يشمل مئات من القوات الأميركية المنتشرة في مالي والنيجر وتشاد الدولتين المتاخمتين لليبيا، معابرَ تصدّر لها: مقاتلين مأجورين، وإرهابيين، ومهربين، ومهاجرين. ويأتي السحب الكامل للقوات التي تشارك في التصدي للمتطرفين في إطار خطة لمح لها وزير الدفاع الأميركي لإعادة تموضع نحو 200 ألف جندي في الخارج، لتركيز انتشارهم في شكل أكبر على أولويتين، هما: الصين وروسيا. نشر القوات الأميركية في قواعد خارجها، وإعادة النظر في تموضعها أو سحبها، استراتيجية بدأت تخضع منذ تسعينيات القرن الـ 20 ـ باستثناء احتلال العراق ـ إلى الرؤية الاقتصادية نهج رئاسات الديمقراطين. فتأخذ في اعتبارها الداخل الأميركي، وتتوخى حسبان الجدوى الاقتصادية. ولايشغلها النفوذ العسكري في العالم، بقدر مايهمها خفض العجز في ميزان المدفوعات وتقليل الفجوة الاقتصادية لصالحها إزاء بلدان صاعدة كاليابان وألمانيا الموّحدة، ثم فيما بعد الصين. الرؤية المُخالفة تنتهجها المؤسسة الدفاعية ومعها المخابرات التي تعارض التوّجه إلى تقليل الاعتماد على القوات العسكرية الأميركية؛ بل تدعو إلى تكثيرها، وتمديدها؛ وزيادة الإنفاق عليها. وكما اعتمدت استراتيجية الحرب الباردة، فيما سمّي بمبدأ الرئيس إيزنهاور، على نظرية انتهاء الاستعمار والفراغ الذي حلّ بعده، والحيلولة أن لا يملأه الاتحاد السوفياتي، فإن المؤسسة العسكرية برّرت في رئاسة الجمهوريين 1989 ـ 1992 رؤيتها بالفراغ الاستراتيجي الواسع الذي خلفه انهيار الاتحاد السوفياتي والواجب ملأه هذه المرة أيضًا أميركيًّا حسب توّجه تيار المحافظين الجُددْ الذي أعلن حادث 11 سبتمبر الإرهابي عن صعوده.

لايعني نشر القواعد الأميركية، والإنفاق العسكري الأميركي الخارجي، هو تبذير لايخضع إلى مبدأ مالي يحكمه. بل تكفي المبرّرات الأيديولوجية في يد الحكومات الأميركية ومؤسستها العسكرية البنتاغون لتمريره في الكونغرس. العكس نقرأه بالرجوع إلى السردية الليبية التي ترافقت مع تفعيل نظرية الاستعمار والفراغ. ففي «الورقات المطوية» لمصطفى بن حليم نلحظ بروز العنصر المالي ـ إيجار الأرض ـ مُشكلًا أمام حكومته التي خاضت المفاوضات الليبية ـ الأميركية عام 1954 بخصوص إعادة النظر في قاعدة الملاّحة المشغولة أميركيًّا في ليبيا بناءً على اتفاقية مبرمة عام 1944 مع الدولة المنتدبة بريطانيا. الإشكال كان طلب ليبيا 15 مليون دولار إيجارًا سنويًّا، وإصرار الوفد الأميركي المفاوض على مبلغ مليون دولار إيجارًا اسميًّا يتفق مع رمزية المبدأ الذي انتهجته السياسة الأميركية بتوجيه من الكونغرس للمدافعة إيجارًا اسميًّا يتفق مع رمزية المبدأ الذي انتهجته السياسة الأميركية بتوجيه من الكونغرس للمدافعة عن العالم الذي تحرّر بعد إنهاء الاستعمار. الوفد الليبي في المفاوضات برّر موقفه بأن المبلغ المطلوب هو دعم التحرر المادي للبلدان الفقيرة من تبعات الاستعمار التي تكون توطئة لنفوذ سوفياتي، وأن الحكومة الليبية المستقلة على استعداد لأن تكون المعونة الأميركية تحت إشراف «المجلس الليبي ـ الأميركي لإعادة الإعمار» وأن لاتدخل باسم الإيجار في الميزانية الحكومية التي تعهدت الاتفاقية مع بريطانيا بتسديد عجزها المالي. تعنت الوفد الأميركي فانسدت المفاوضات. فاقترح الملك إدريس الاستعانة بالحكومة التركية التي تعطف على الليبين معترفة بجميلهم بوقوفهم معها في الحرب العالمية الأولى، أن تدعم بحكم خبرتها مع القواعد الأميركية الموقف الليبي بأن تكون مباحثاته مباشرة مع الرئاسة الأميركية. فتجاوب الرئيس إيزنهاور ووزير خارجيته دلاس مع مسمى إعادة الإعمار الذي سيحظى بموافقة الكونغرس، وهو ما سيكفل لليبيا رعاية أميركية لاقتصادها مثلما عوملت دولة جُزر الفلبين .

دراسات مابعد الاستعمار شاغل فكري افتعله كتاب عالمثالثيون، من المُستعمرات تثقفوا وتأهلوا عاليًا في الغرب الذي بلدانه استعمرت في القرنين 19 وبدايات الـ 20 أوطانهم .وفي كتاباتهم تداخلت مجالات البحث السياسي والثقافي في الاستعمار وإمبرياليته التي وصفها لينين بآخر تمدداته. ولم تحظَ في كتاباتهم بالبحث ماسمّي بالإمبريالية المستجدة بعد الحرب العالمية الثانية التي افتتحت فضاءً مختلفًا دشنته الولايات المتحدة الأميركية في سياق الحرب الباردة عسكريًّا بالقواعد فيما سمّي في الأدبيات السياسية العالمثالثبة بالاستعمار الجديد .

نضع في ميزان التفكير ما بلورته عام 1954 «الورقات المطوية» نموذجًا للبرغماتية العفوية فيما أعنيه بالتموضع في جغرافية القيم العالمية بتوّجهات السياسة الخارجية الليبية، حيث استُفيد بحنكة من القيمة الجدلية للحرية والحاجة لتفعيلها سياسة تهدف إلى التوفيق بينهما في مثال قاعدة الملاّحة «ويلس» الأميركية .

وهذا المثال عايش مثاقفته جيلنا النابه المولود في طرابلس الخمسينات واعيًا بالأجواء العدائية التي أحاطت بالقاعدة لأوّل مرة في هزيمة العرب أمام إسرئيل عام 1967، من أبناء تخوم مدينة طرابلس وريفها وبعض من شباب المدينة، حيث أنست الديماغوجيا القومية، الملتبسة بالوهم النفطي أن القاعدة الأميركية «ويلس» كانت مصدر العمل والارتزاق الأول وورشة التدريب التي امتصت لقرابة عقدين عطالة آبائهم. كما توهتّهم الشيزوفرنيا الإسلاموية المتخارجة مع الحدود الليبية التي آتت أكلها في حادث القنصلية الأميركية الدامي في بنغازي 2012؛ والذي أودى بحياة السفير الأميركي الذي تبنى موضعة ليبيا الثورية مابعد تغيير 2011 في خطط أميركا الأمنية لمحاربة الإرهاب في أفريقيا.

كما بيّن هال براندز في «بلومبيرغ» بأن هذه الأحداث تكون منذ عقدين من الزمن مثار مجادلة بأن الوجود العسكري الأميركي في الخارج كان محركًا قويًّا لـ«رد الفعل» المناهض للولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم، وهو مايدعو إلى سياسة خارجية أكثر تقييدًا. ومع ذلك، فإن التركيز على هذه الأمور لا يُظهر سوى جزء واحد من القصة، وهو ما كشفته دراسة جديدة قام بها 4 علماء في مجلة العلوم السياسية الأميركية، فبناء على دراسات استقصائية لـ14 ألف شخص في 14 دولة، فإن القواعد الأميركية لديها تأثير إيجابي على التصورات الأجنبية للولايات المتحدة، ومن بين 14 دولة شملها الاستطلاع كان هناك شعور سلبي عام تجاه القوات الأميركية في دولة واحدة فقط، وهي تركيا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.