في فيلم الخيال العلمي “ذي تيرمنال مان” (The Terminal Man) الذي أنتج عام 1974، أجرى البطل هاري بنسون (جورج سيغال) عملية زراعة دماغية على أمل علاج نوبات الصرع العنيفة التي تؤدي به إلى فقدان الوعي. إنه عالِم حاسوب متخصص في الذكاء الاصطناعي توقع أن أجهزة الحاسوب سوف تغزو البشرية، ولكن هناك بعض المضاعفات غير المتوقعة.
وفي المجال الكوميدي، من منا لا يتذكر “اللمبي 8 غيغا”؟، الفيلم المصري الذي أُنتج عام 2010 ويدور حول شخص فقير ومحدود الذكاء يتعرض لحادث يتسبب باضطراب في إشارات المخ، ليساعده طبيب في زرع شريحة صغيرة كانت مصدرا لذكاء خارق.
وأيضا مسلسل “بلاك ميرور” (Black Mirror) أو “المرآة السوداء” الذي أُنتج عام 2011، وتدور أحداثه حول شريحة في المخ تُمكّن أي شخص من استرجاع أي ذكرى مر بها.
وفي فيلم “أب غراد” (Upgrade) أو “التحديث” الذي عُرض في عام 2018، ويظهر فيه البطل لوغان مارشال مصابا بشلل رباعي بعد قطع حبله الشوكي، فيوافق على طلب لزرع شريحة إلكترونية تساعده ليس فقط على استرجاع قدراته، بل على تعزيزها بشكل كبير للغاية جسديا وعقليا.
واليوم يبدو أن هذه الأفكار الخيالية القديمة الجديدة في الأفلام وفي الأحلام، بدأت تتحول من الخيال إلى الواقع بعد خضوع أول مريض من البشر لزراعة شريحة دماغية من الشرائح التي أنتجتها شركة “نيورالينك” الناشئة للملياردير إيلون ماسك.
المريض الذي زرعت في دماغه الشريحة بدأ يتعافى بشكل جيد بحسب تصريحات ماسك التي نشرها موقع “ذي بيزنس إنسايدرز”. وتشير النتائج الأولية إلى رصد زيادة الخلايا العصبية على نحو واعد، ومع ذلك فإن زرع الشريحة الدماغية هو مجرد بداية لتجربة سريرية تمتد لعقود من الزمن ويحيط بها المنافسون والعقبات المالية والمآزق الأخلاقية.
“نيورالينك”.. سنوات من الادعاءات الخيالية
يشتهر إيلون ماسك بشركاته التكنولوجية رفيعة المستوى مثل تسلا وسبيس إكس، لكن الملياردير لديه أيضا مجموعة من المشاريع غير العادية، و”نيورالينك” واحدة منها، وهي شركة تكنولوجيا الواجهات العصبية التي تعمل على تطوير جهاز يمكن دمجه في دماغ الشخص، حيث يسجل نشاط الدماغ ويحتمل أن يحفزه.
أسس ماسك شركة نيورالينك في عام 2016، وأصبحت معروفة علنا لأول مرة في عام 2017 عندما نشرت صحيفة وول ستريت جورنال تقريرا عنها، ولم يُكشف عنها للجمهور حتى عام 2019 عندما استعرض ماسك وأعضاء آخرون في الفريق التنفيذي للشركة تقنياتهم في عرض تقديمي بُث مباشرة.
وفي يوليو/تموز من هذا العام (2019)، قدم ماسك لمجموعة من المهندسين والمستهلكين الفضوليين اختراعا يبدو من قبيل الخيال العلمي من صنع شركته الناشئة في مجال التكنولوجيا العصبية “نيورالينك”؛ إنها “شريحة دماغية في حجم العملة المعدنية تقريبا قابلة للزرع في جمجمة الشخص من شأنها دمج الذكاء البيولوجي مع الذكاء الآلي”.
ووفقا لوصف ماسك، سيتم تثبيت هذه الشريحة في دماغ الشخص عن طريق حفر ثقب يبلغ قطره 2 ملم في الجمجمة، مع توصيل أقطاب كهربائية إلى دماغه، ومن خلالها تنطلق مجموعة من الأسلاك الصغيرة -كل منها أرق من شعرة الإنسان بنحو 20 مرة- إلى دماغ المريض، وأكد أن “واجهة الشريحة لاسلكية، لذلك لا توجد أسلاك تخرج من رأسك”، وهي قادرة على مراقبة نشاط الدماغ، ونقل البيانات لاسلكيا عبر الشريحة إلى أجهزة الحاسوب، حيث يمكن للباحثين دراستها.
وجادل ماسك بأن مثل هذه الأجهزة ستساعد البشر على التعامل مع ما يسمى هيمنة الذكاء الاصطناعي، وهو السيناريو الذي يصبح فيه الذكاء الاصطناعي الشكل السائد للذكاء على الأرض -مثل برامج الحاسوب أو الروبوتات- بشكل فعال على الكوكب بعيدا عن الجنس البشري.
يريد ماسك أن يجمع بين الإنسان والآلة عبر شركة “نيورالينك” ومشروعها الكبير الذي يشمل جهازا آخر، وهو روبوت يمكنه زرع الشريحة تلقائيا، ويعمل باستخدام إبرة صلبة لثقب الأسلاك المرنة المنبعثة من شريحة “نيورالينك” في دماغ الشخص، تماما مثل ماكينة الخياطة. وادعى ماسك أن الجهاز يمكن أن يجعل عملية زرع أقطاب “نيورالينك” الكهربائية سهلة مثل جراحة العيون باستخدام الليزك.
وفي مقطع الفيديو التالي الذي أصدرته شركة “نيورالينك” يعرض المقطع الروبوت المذكور في يناير/ كانون الثاني 2021.
وفي عام 2020، عرضت شركة “نيورالينك” إحدى شرائحها المدمجة في أنثى خنزير تدعى “جيرترود”، وأظهر العرض كيف تمكَّنت الشريحة من التنبؤ بدقة بموضع أطراف “جيرترود” عندما كانت تمشي على جهاز المشي، بالإضافة إلى تسجيل النشاط العصبي عندما كانت تبحث عن الطعام، وقال “ماسك” إن الخنزير كان يعيش مع الشريحة المغروسة في جمجمتها لمدة شهرين.
خطت “نيورالينك” خطوة أبعد من خلال عروضها التجريبية على الحيوانات في أبريل/ نيسان 2021، عندما عرضت قرد “بيجر” البالغ من العمر تسع سنوات وهو يلعب ألعاب الفيديو باستخدام عصا التحكم التي فُصلت عن وحدة التحكم في الألعاب، مما يعني أنه كان يتحكم في المؤشر باستخدام إشارات دماغه أثناء تحرك ذراعه، كما يقول ماسك.
أعلن ماسك بحماس في عرض تقديمي عام 2019، أن شركة نيورالينك نجحت في زرع شريحتها في قرد، وقال: “لقد تمكن قرد من التحكم في جهاز حاسوب بعقله”، الأمر الذي يبدو أنه فاجأ رئيس الشركة حينها ماكس هوداك الذي قال: “لم أكن أدرك أننا كنا نحقق هذه النتيجة اليوم، ولكن ها هو الأمر”، وكرر ماسك هذا الادعاء في فبراير/شباط 2021، قبل شهرين من عرض الفيديو.
يحب ماسك أن يتباهى بأن شركته يمكنها السماح للقرود بالتحكم في أجهزة الحاسوب من خلال إشارات الدماغ، لكن علماء الأعصاب لا يرون أن هذا أمر مفاجئ أو حتى مثير للإعجاب، فقد زُرعت من قبل واجهات دماغية عصبية لدى الرئيسيات لتسمح لها بالتحكم في الأشياء التي تظهر على الشاشات، وكان الباحثون رائدون في هذا النوع من التكنولوجيا لأول مرة في عام 2002، ولكن يمكن القول إن أصولها تعود إلى الستينيات.
وفي فبراير/شباط 2022، قدمت مجموعة حقوق الحيوان -لجنة الأطباء للطب المسؤول- شكوى إلى وزارة الزراعة الأميركية ضد “نيورالينك” بشأن احتمال انتهاكها لقانون رعاية الحيوان وتعرض القرود لمعاملة قاسية نتيجة عمليات الزرع التجريبية شديدة التوغل خلال التجارب بين عامي 2017 و2020.
دحضت “نيورالينك” اتهامات مجموعة حقوق الحيوان بأن قرودها التجريبية تعرضت لسوء المعاملة، وقالت في منشور على موقعها: “في شركة نيورالينك، نحن ملتزمون تماما بالعمل مع الحيوانات بأكثر الطرق إنسانية وأخلاقية ممكنة”، وأنالشركة بنت منشأة خاصة بها بمساحة 6 آلاف لإيواء الحيوانات في عام 2020، مضيفة أن حظائرها الحيوانية تحتوي على “إثراءات بيئية” بما في ذلك حمامات السباحة والأراجيح وبيوت الأشجار.
لم تكن أي من التقنيات التي عرضتها نيورالينك حتى ذلك الحين رائدة بشكل خاص، فوفقا لعلماء الأعصاب فإن كل ما فعلته الشركة يتلخص في قدرتها على تجميع التقنيات الحالية في شكلٍ صغير ولطيف.
وعلاوة على ذلك، عانت نيورالينك من تاريخ من الوعود الزائفة، ليس أقلها الفشل في الوفاء بالجداول الزمنية التي وضعتها، فقد قال ماسك إن شركته تأمل في البدء بزرع شرائحها الدماغية في البشر في عام 2022، أي بعد عامين مما كان يتصوره في الأصل.
وفي حديثه في قمة مجلس المديرين التنفيذيين لصحيفة “وول ستريت جورنال” في 6 ديسمبر/كانون الأول عام 2021، قال ماسك إن “نيورالينك تأمل في بدء التجارب البشرية في العام التالي في انتظار موافقة إدارة الغذاء والدواء الأميركية”، وكرر هذا الادعاء على تويتر بقوله: “سوف يتسارع التقدم عندما يكون لدينا أجهزة في البشر (من الصعب إجراء محادثات دقيقة مع القرود) في العام المقبل”.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يحدد فيها ماسك جدولا زمنيا لتوصيل شرائح نيورالينك إلى البشر، فقد قال ماسك خلال ظهوره في بودكاست يقدمه الممثل الكوميدي الأميركي جو روغان في مايو/أيار 2020، إن شركته يمكن أن تبدأ الاختبار على البشر في غضون عام، وقدم نفس الادعاء خلال مقابلة ببرنامج کلوب هاوس في فبراير/شباط 2021، وقبل ذلك في عام 2019 قال إن الشركة تأمل في زرع شريحة في مريض بشري بحلول نهاية عام 2020، وأعرب الخبراء عن شكوكهم إزاء هذا الجدول الزمني في ذلك الوقت.
وسبق أن قدم ماسك الكثير من الادعاءات الخيالية إزاء القدرات المحسنة التي يمكن أن تمنحها شركته، وفي عام 2020 قال إن الناس “سيحفظون الذكريات ويعيدون تشغيلها” كما في فيلم المرآة السوداء (Black Mirror)، أو يستدعون سياراتهم بشكل تخاطري، وكالعادة شكك كثيرون في هذه الادعاءات.
وخلال ظهوره في بودكاست “الذكاء الاصطناعي” مع ليكس فريدمان في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2019، قال ماسك إن شركة نيورالينك يمكنها في المستقبل “حل الكثير من الأمراض المرتبطة بالدماغ”، وذكر التوحد والفصام كأمثلة، رغم أن التوحد يُصنَّف على أنه اضطراب في النمو وليس مرضا، وتصف منظمة الصحة العالمية الفصام بأنه اضطراب عقلي.
وفي آخر يناير/ كانون الثاني 2024، ادعى ماسك أن أول مريض بشري؛ تلقى إحدى عمليات زرع الدماغ الخاصة بالشركة، وقال في منشور لاحق إن الشريحة الأولى تسمى “تليباثي” (Telepathy) (أي التخاطر)، مضيفا أن الجهاز “يتيح التحكم في هاتفك أو جهاز الحاسوب الخاص بك أو أي جهاز تقريبا بمجرد التفكير، وسيكون المستخدمون الأوائل هم أولئك الذين فقدوا استخدام أطرافهم”. لكن هذه الشريحة وهذه التجربة ليست الأولى من نوعها.
سباق الشرائح الدماغية
كانت واجهات الدماغ والحاسوب التي يرمز لها اختصارا بـ”بي سي آي” -وهي الأجهزة التي تربط الدماغ بجهاز حاسوب للسماح للمستخدم بإكمال نوع من الإجراءات باستخدام إشارات الدماغ- موجودة منذ فترة أطول مما تتوقع، وبحث العلماء على مدى العقود الماضية في استخدام واجهات التواصل الدماغي لاستعادة الحواس المفقودة والتحكم في الأطراف الصناعية، من بين تطبيقات أخرى.
وحدث أول عرض توضيحي لواجهة الدماغ والحاسوب في عام 1963، فخلال محاضرة ألقاها في جامعة أكسفورد، أذهل عالم الأعصاب ويليام جراي والتر جمهوره بعد ربط أحد أدمغة مرضاه بجهاز العرض، حيث قاموا بتطوير شرائح العرض التقديمي باستخدام أفكارهم فقط.
وبدأت أجهزة واجهات التواصل بين الدماغ الأقدم في التطور منذ ذلك الحين، وكانت أولى مؤشرات التواصل المستمر بسيطة نسبيا، واستُخدمت على القطط والحيوانات الأخرى لتطوير مسارات التواصل. وطوّر جوناثان وولباو أول جهاز مزروع في الإنسان في عام 1991، وسمح لمستخدمه بالتحكم في المؤشر بإشارات دماغه.
ومهدت التطورات في التعلم الآلي على مر السنين الطريق أمام المزيد من مؤشرات التواصل القابلة للزرع الأكثر تطورا، والتي يمكنها التحكم في الأجهزة المعقدة، بما في ذلك الأطراف الآلية والكراسي المتحركة والهياكل الخارجية، وأصبحت الأجهزة أصغر حجما بشكل تدريجي وأسهل في الاستخدام بفضل الاتصال اللاسلكي.
من أقدم أنظمة زرع أجهزة الذكاء الاصطناعي المتقدمة في الدماغ كان نظام برين غيت الذي تأسس في عام 1998 بولاية ماساتشوستس، وهو موجود منذ أواخر التسعينيات، ويعتمد على وضع الجهاز في الدماغ باستخدام الإبر الدقيقة على غرار التقنية التي تستخدمها “نيورالينك”.
ربما تكون أجهزة “برين غيت” هي الأكثر تقدما عندما يتعلق الأمر بوظائف واجهات التواصل الدماغي، ويوفر أحد أجهزتها السلكية سرعة كتابة تصل إلى 90 حرفاً في الدقيقة، أو 1.5 حرف في الثانية.
ونشرت دراسة في يناير/كانون الثاني 2023 نتائج بيانات جُمعت على مدار 17 عاما من 14 شخصا بالغا تلقوا عملية جراحية في الدماغ تعود إلى عام 2004، وخلال هذا الوقت لم تتضمن النتائج أي وفيات، وكان هناك عدد قليل من “الأحداث السلبية”، بما في ذلك العدوى والنوبات والمضاعفات الجراحية والتهيج حول الغرسة (الشريحة) وتلف الدماغ، واعتبرت 6 حالات فقط من أصل 68 حادثة “خطيرة”.
ومع ذلك، فإن الموجة الحالية من الاستكشاف في استخدام تقنيات تسجيل الدماغ لاستعادة الحركة والتواصل للمرضى المصابين بالشلل الشديد، بدأت في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهي تعتمد على دراسات أجريت في الأربعينيات لقياس نشاط الخلايا العصبية المفردة، وتجارب أكثر تعقيدا على الجرذان والقردة في التسعينيات.
وفي هذا العقد، دخلت العديد من الشركات البارزة مجال واجهة الدماغ والحاسوب مدعومة باستثمارات بملايين الدولارات، ولم تكن شركة ماسك سوى واحدة من قائمة متزايدة من الشركات المكرسة لتطوير تكنولوجيا واجهات الحاسوب الدماغية أو أنظمة لتسهيل الاتصال المباشر بين العقول البشرية وأجهزة الحاسوب الخارجية.
وتواجه شركة ماسك منافسة في هذا المجال، خاصة من شركات لديها سجل حافل يعود إلى عقدين من الزمن، حيث قامت شركة “بلاك روك” ومقرها يوتا، بزرع أول آلية للتواصل بين الدماغ والحاسوب في عام 2004.
وصُممت هذه الآلية اعتمادا على أحد الأجهزة المبكرة المعروفة باسم “مصفوفة يوتا” المستخدم على نطاق واسع في واجهات الدماغ والحاسوب الحالية، والذي أصبح متاحا منذ عام 2005. وتشبه المصفوفة -كما هو معروف- فرشاة شعر صغيرة تحتوي على نحو 100 قطب كهربائي شبيه بالشوكة، وهي جزء من نظام تأمل شركة “بلاك روك” في طرحه في الأسواق هذا العام، كما تبين أن الجهاز يسبب التهابا وندوبا في أنسجة المخ، مما قد يؤدي إلى فقدان جودة الإشارة بمرور الوقت.
وقد بدأت شركة كيرنل الأميركية في عام 2016 -وهي شركة متخصصة في الطب العصبي تعمل على تغيير الطريقة التي يُقاس بها الدماغ ومعالجته- بالبحث في الأجهزة القابلة للزرع، قبل أن تتحول إلى التركيز على التقنيات التي لا تتطلب جراحة.
وحتى شركة “فيسبوك” خاضت تجربة واجهات الدماغ والحاسوب، مع خطة طموحة لإنشاء سماعة رأس تتيح للمستخدمين كتابة 100 كلمة في الدقيقة، لكنها أوقفت هذا البحث في عام 2021 للتركيز على أنواع أخرى من الواجهات بين الإنسان والحاسوب.
وفي أبريل/ نيسان 2021، غادر المؤسس المشارك والرئيس لشركة نيورالينك منذ عام 2017 ماكس هوداك الشركة لأسباب غير معروفة. وفي فبراير/شباط 2022، كشف أنه استثمر ودعم شركة تكنولوجيا حيوية منافسة تفوقت على “نيورالينك” في التجارب البشرية باستخدام تقنية الواجهة العصبية الخاصة بها.
كانت هذه الشركة تدعى “سينكرون”، وهي شركة أسترالية تأسست في عام 2016 في ملبورن، وتعد من أكبر المنافسين أيضا لـ”نيورالينك”، وأصبحت في عام 2019 أول شركة تحصل على الموافقة لإجراء التجارب السريرية في أستراليا، وحصلت في عام 2021 على موافقة لبدء تجاربها لتطوير شريحة تسمح للأشخاص المشلولين بالكتابة عن طريق التفكير.
وأجرت الشركة تجارب على الحيوانات وتعرضت لانتقادات بسبب نفوق عشرات الأغنام التي خضعت للتجارب الأولى، لكنها في النهاية سبقت شركة ماسك بعد أن نجحت في صيف 2022 في زرع شريحة في دماغ مريض أميركي لأول مرة بعد أن حصلت على موافقة لإجراء تجارب سريرية في عام 2020.
وعلى عكس نيورالينك التي تزرع أجهزتها عن طريق حفر ثقب في الجمجمة، يتمثل نهج “سينكرون” في تجنب إجراء عملية جراحية كاملة باستخدام الأوعية الدموية لزرع أقطاب كهربائية في الدماغ، ويشبه هذا النهج القليل التدخل عمليات الدعامات الأخرى التي تُجرى بشكل روتيني في العيادات، وبالتالي قد تساعد دعامة “سينسرون” الصغيرة جدا على تقريب عمليات واجهة التواصل الدماغي لتصبح إجراءً يوميا.
هناك أيضا شركة “بريسيجن” التي أنشأها أحد مؤسسي “نيورالينك”، والتي تهدف إلى مساعدة الأشخاص المصابين بالشلل، وفي آليتها تُجرى زراعة شريط رقيق جدا فوق سطح الدماغ عبر شق صغير في الجمجمة، وهو إجراء أبسط بكثير.
وكان المركز الطبي الجامعي في أوتريخت بهولندا، أول من ينجز تقنية واجهة التواصل الدماغي المزروعة لاسلكيا بالكامل والتي يمكن للمرضى أخذها إلى المنزل.
ويستخدم جهاز المركز الطبي مخطط كهربية قشرة الدماغ المعروف اختصارا بـ”إي كوج”، حيث توضع أقطاب كهربائية على شكل أقراص معدنية مباشرة على سطح الدماغ لاستقبال الإشارات، وتتصل لاسلكيا بجهاز استقبال، والذي بدوره يتصل بجهاز حاسوب.
وتمكن المشاركون في تجربة سريرية استمرت من عام 2020 إلى عام 2022؛ من أخذ الجهاز إلى المنزل واستخدامه يوميا لمدة عام تقريبا، وسمح لهم الجهاز بالتحكم في شاشة الحاسوب والكتابة بسرعة حرفين في الدقيقة، وعلى الرغم من أن سرعة الكتابة هذه بطيئة فإنه من المتوقع أن يكون أداء الإصدارات المستقبلية التي تحتوي على المزيد من الأقطاب الكهربائية أفضل.
وفي هولندا أيضا، هناك شركة تدعى “أونورد” طورت شريحة إلكترونية تعمل على تحفيز الحبل الشوكي والسماح للمصابين بالشلل الرباعي باستعادة القدرة على الحركة، وهو تقريبا الإنجاز الذي توصل إليه باحثون في فرنسا من معهد “كلينتك” بمدينة غرينوبل، طوروا شريحة تدعى “ويماجن”، وهذه الشريحة سمحت من خلال الاستعانة بهيكل خارجي لمصابين بالشلل الرباعي أيضا بالحركة من جديد.
وفي السياق نفسه، طور فريق سويسري خوارزمية على البشر تعتمد على وصل الدماغ بالأعصاب في الطرف الذي لا يعمل، وذلك بإدخال غرسين (شريحتين) في الجمجمة على شكل أقراص ينقلان لاسلكيا إشارات الدماغ.
وتُعد هذه الشركات مجرد عدد قليل من الشركات المنافسة المدعومة بالمشاريع، والتي تعمل على أجهزة للأشخاص المصابين بالشلل. ففي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كشفت شركة ناشئة تدعى ساينس عن مفهوم واجهة كهربائية حيوية للمساعدة في علاج فقدان البصر. وفي سبتمبر/أيلول الماضي، حصلت شركة ماغنوس ميديكال على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأميركية على علاج مستهدف لتحفيز الدماغ لعلاج اضطراب الاكتئاب الشديد.
وقدرت شركة استخبارات السوق غراند فيو ريسيرش سوق زرع الدماغ العالمي بنحو 4.9 مليارات دولار في عام 2021، وتوقعت شركات أخرى أن يتضاعف هذا الرقم ليصل إلى 9.5 مليارات دولار بحلول عام 2030.
ومع احتدام السباق لـ”احتلال” أدمغة البشر بعد الإعلان عن شريحة “نيورالينك”، حددت الصين في اليوم التالي جدولا زمنيا لتطوير “واجهة الدماغ والحاسوب” الخاصة بها لمنافسة هذه الخطوة الجديدة في مجال التكنولوجيا، على أن تصل “منتجاتها المبتكرة” مثل واجهة الدماغ الحاسوبية والرقائق الشبيهة بالدماغ والنماذج العصبية الحاسوبية للدماغ، في وقت مبكر من عام 2025.
وتقول وزارة الصناعة وتكنولوجيا المعلومات الصينية إنها ترغب في تطوير العديد من منتجات واجهة الدماغ سهلة الاستخدام، وتشير إلى إمكانية استخدام تكنولوجيا الدماغ في القيادة بدون سائق، والواقع الافتراضي وإعادة التأهيل الطبي. كما جرى الاستشهاد بـ”الذكاء المستوحى من الدماغ” المعروف أيضا باسم “الذكاء الاصطناعي التوليدي” عدة مرات على أنه من المحتمل أن يكون متوافقا مع هذه التقنيات الجديدة.
وفي العام الماضي، افتتحت الحكومة الصينية مختبرا يضم 60 شخصا يركز بالكامل على واجهات الدماغ والآلة، ويركز في المقام الأول على تحويل أبحاثه إلى تطبيقات عملية يمكن أن تنافس “نيورالينك”، كما طور الباحثون في الصين جهاز حاسوب يتصل بالدماغ عبر الأذن الداخلية دون الحاجة إلى زرع شريحة مثل شريحة “نيورالينك”.
وتقدم هذه الإعلانات المبكرة لمحة عن أكبر معركة تكنولوجية دولية في العقد المقبل. وعندما يكتشف شخص ما كيفية وضع هاتفك الذكي مباشرة في رأسك، فلن تحتاج إلى تحريك عضلة لمتابعة الفيديوهات عبر تيك توك، ويمكن أن يصبح جسمك فاقدا للإرادة عندما تسرق شركات التكنولوجيا بيانات أفكارك، وبدلا من العمل من المنزل، يمكنك العمل من عقلك.. إنها حقيقة بائسة تعمل عليها الصين وإيلون ماسك منذ سنوات.
أي مستقبل ينتظر أدمغة البشر؟
على الرغم من أن البشر لم ينتجوا بعد سيارات طائرة، أو يرسلوا بعثات إلى المريخ، فإن واجهات الدماغ والحاسوب قد تكون التكنولوجيا الأكثر أهمية، ليس فقط للحاق بتصورات الخيال العلمي المبكرة، بل تجاوزها في بعض الحالات.
ويستخدم أكثر من 200 ألف شخص حول العالم بالفعل نوعا ما من واجهات الربط بين الأدمغة لأسباب طبية في الغالب، ولعل حالة الاستخدام الأكثر شهرة هي غرسة القوقعة الصناعية، والتي تمكن الأشخاص الصم من السمع إلى حد ما.
ومن حالات الاستخدام البارزة الأخرى الوقاية من نوبات الصرع، واقترح بعض الباحثين أنظمة لا تكتشف النوبات فحسب، بل تستبقها عن طريق التحفيز الكهربائي، وهي تقريبا نفس الآلية الموضحة في فيلم “ذي تيرمنال مان”.
في الوقت الحالي، تقتصر تقنية واجهة الدماغ والحاسوب على المجال الطبي، ولكن جرى اقتراح مجموعة واسعة من الاستخدامات غير الطبية لهذه التكنولوجيا.
ويثير هذا المشهد التنافسي قضايا أخلاقية محتملة تتعلق برفاهية المرضى في دراسة برايم التي أجرتها شركة “نيورالينك” ووافقت عليها إدارة الغذاء والدواء الأميركية العام الماضي، وتستمر لمدة 6 سنوات، وتهدف إلى دراسة سلامة الشريحة الدماغية والروبوت والجراحة، واختبار وظائف أجهزتها.
فمن ناحية، من الصعب للغاية تجنيد مشاركين في دراسات زرع الأعصاب إلا بعد استيفاء المرضى معايير صارمة ليكونوا مؤهلين، والتجارب محفوفة بالمخاطر بطبيعتها وتتطلب الكثير من المشاركين، ومع ذلك ستحتاج الشركة إلى الاستعداد لتقديم دعم طويل الأمد للمرضى.
وإذا ساءت الأمور، فقد يحتاج المرضى إلى الدعم للتعايش مع العواقب. وإذا سارت الأمور على ما يرام، فقد تحتاج شركة “نيورالينك” إلى التأكد من عدم توقف الأجهزة عن العمل.
وفي عام 2022، أظهرت شركة تدعى “سكند سايت” المخاطر، فقامت الشركة بإجراء عمليات زرع شبكية لعلاج العمى، وعندما أفلست الشركة تركت أكثر من 350 مريضا حول العالم بزرعات قديمة ولا توجد طريقة لإزالتها.
وإذا نجحت أجهزة نيورالينك، فمن المرجح أن تغير حياة المرضى. لكن ماذا يحدث إذا أنهت الشركة عملياتها لأنها لا تستطيع تحقيق الربح؟ من الضروري وضع خطة للرعاية طويلة الأمد.
وعلى المدى القريب، يمكن لشريحة في دماغ شخص ما أن تسمح للناس بالتحكم في الأطراف الاصطناعية الروبوتية بعقولهم، وتساعد في علاج الاضطرابات العصبية مثل مرض باركنسون وألزهايمر بشكل أفضل، ويمنح الأشخاص المصابين بالشلل الرباعي القدرة على استعادة حريتهم الرقمية من خلال التحكم في الهواتف وأجهزة الحاسوب المحمولة وفق ما أعلنت عنه “نيورالينك” في أعقاب جولة تمويل بقيمة 205 ملايين دولار من مستثمرين بما في ذلك شركة غوغل فينتشرز في يوليو/تموز 2021.
وعلى الرغم من أن ماسك قد روج لتطبيقات “نيورالينك” على المدى القريب، فإنه غالبا ما يربط الشركة بمخاوفه بشأن الذكاء الاصطناعي، ويعتقد أن البشرية ستكون قادرة على تحقيق “التكافل مع الذكاء الاصطناعي” باستخدام التكنولوجيا التي طورتها شركته، لكن الخبراء يشككون في ذلك.
قد يبدو هذا كالخيال العلمي، لكن الواقع هو أننا وصلنا إلى نقطة بدأت فيها الحواجز الثقافية والأخلاقية أمام هذا النوع من التكنولوجيا في تجاوز الحواجز التقنية.
وعلى الرغم من الطبيعة الخيالية لفيلم “ذي تيرمنال مان”، فإن تحول بطل الفيلم الكارثي يثير تساؤلات حقيقية عن التأثيرات غير المقصودة لواجهات التواصل بين الدماغ والحاسوب.
ومن خلال واجهات الدماغ والحاسوب، سيُمحى الحاجز البيولوجي بينك وبين شركات التكنولوجيا الكبرى في نهاية المطاف، وسيكون للتكنولوجيا وصول غير مقيد إلى أفكارك، ومن المحتمل أن تتعلم كل ما هو موجود عنك.
عقلك هو مركز البيانات الذي كانت شركات التكنولوجيا تسعى إليه طوال العقدين الماضيين. وبفضل خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي وتتبع الإنترنت، مثل ملفات تعريف الارتباط، اكتسبت التكنولوجيا ببطء فهما لكل ما يحفزك ويثيرك ويشعل غضبك.
وقد يكون السيناريو الأسوأ لجميع أبحاث التكنولوجيا العصبية هو تكرار تجارب والتر فريمان الكارثية في عملية استئصال الفص الجبهي في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، والتي كان لها عواقب كارثية على المرضى، وأرجعت الأبحاث إلى الوراء لأجيال.
في النهاية، من الجيد أن نعرف أن بعض الأسماء الأكثر ثقة في مجال التكنولوجيا، مثل إيلون ماسك والصين، يقودان أحدث موجة مرعبة من التكنولوجيا.