إميل أمين
في الثاني من ديسمبر من كل عام، تحتفل الإمارات العربية المتحدة بيومها الوطني.
ويصادف هذا العام ذكرى اليوبيل الذهبي لتأسيس الاتحاد الإماراتي في صورته العصرانية، تلك التي نجح الأب المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آلِ نهيان، طيَّبَ الله ثراه، في التوصل إليها، ليعلن الاتحاد ويقود دفّة البلاد حتّى عام 2004، ويترك من خلفه قيادة لها شغل شاغل واحد هو رفعة شأن الإمارات والإماراتيين ونشر السلام ومحاربة الخصام في المنطقة والعالم.
يعنّ لنا أن نتساءل: هل يجيء احتفال الإمارات هذا العام بعيدها الوطني مغايرًا لاحتفالات الأعوام الماضية؟
مؤكَّد أنّ ذلك كذلك، وبخاصة في ظل زخم الانتصارات والنماءات الإماراتية التي بات العالم برُمّته يشهد بها للإمارات، التي أضحت رمزًا بين الأمم للمواءمة بين الحفاظ على التراث العربي الأصيل وبين الحداثة ومواكبة العصر.
تنطلق احتفالات اليوم الوطني هذا العام والإمارات تعيش عُرسًا ثقافيًّا عولميًّا، وبكل ما تحمله الكلمة من معانٍ ومبانٍ، عُرس إكسبو 2020، ذاك الذي شهد العالم برُمَّته لنجاح الإمارات في إعداده وترتيبه ليخرج بهذا الشكل المتميز، والذي تلعب فيه الإمارات دور الجسر مع بقية أرجاء العالم لتصل الماضي بالحاضر.
أفضل تعبير يصف حال ومآل الإمارات في عيدها القومي، تعبير الكاتب والأديب الروسي الكبير أنطون تشيكوف: “الذين يتذكّرون يعيشون الشيخوخة، فيما الذين يحلمون يقيمون دومًا في منطقة الشباب”.
في خمسينيتها تبدو الإمارات عفية فتيّة شابة بما تملكه من آمال ومشروعات تطال بها النجوم، وها هي بعد أن رسى مسبارها على سطح الكوكب الأحمر، المرّيخ، تمضي نحو كوكب الزهرة، في خطّة لاستكشاف الفضاء، إيمانًا منها بأنّ مشروعها لا يتوقّف ولا ينتهي.
وقت كتابة هذه السطور كانت فعاليات “التحالف العالميّ للتسامح” و”قمّة الأديان”، قد انطلقت على أرض الإمارات بهدف لا يخفى عن الأعين، وهو تقريب المسافات بين الأمم والشعوب في أوقات مصيريّة للإنسانيّة، حيث تبدو المسكونة وساكنوها على صفيح ساخن بيئيًّا وديموغرافيًّا.
لم تتوقَّفْ الإمارات عند أكبر حدث في العقد الماضي، ذاك الخاصّ بإخراج وثيقة الأخوّة الإنسانيّة إلى النور، تلك التي قام عليها البابا فرنسيس والدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، والتي كانت وستظلّ لعقود، بل ربّما لقرون، منهاجًا يهدي البشريّة في طريق التسامح والتصالح مع الذات والآخر، وطريقًا يقي العالم شرور الصدامات، سواء تلك التي تقوم على جذور عرقيّة، أو التي تنطلق من أسس عقدِيّة، وتُعبِّد المسار أمام بشريّة واحدة متماسكة ومتلاحمة عن صدق، بعيدًا عن ملامح ومعالم الزيف.
نقول لم تتوقّف الإمارات، بل ها هي تهتمّ بمتابعة شأن هذا الوصل الخلّاق، ولهذا لم يكن غريبًا أو مثيرًا أن تعلن الأمم المتّحدة يوم الرابع من فبراير يومًا للأخوّة الإنسانية حول العالم، وتمضي الإمارات من جديد في طريق تأكيد وتعزيز روح التسامح، تلك الفضيلة التي لو توافرت في حاضرات أيّامنا لتغَيَّر شكل العالم برُمّته، ولقُضِيَ على غالبيّة، إنْ لم يكن كل، الصراعات الآنية والمستقبلية.
ومع خمسينيّة الإمارات يدرك العالم أنّ توجّهاتها تنطلق من إرث إنسانيّ وضع جذوره في باطن النفس الإماراتيّة الشيخ زايد بن سلطان آلِ نهيان، رحمه الله، ويتعاظم شعور البشر حول الكرة الأرضيّة بأنّ الإمارات دولة تفعل ما تقول.
وقد جاءت جائحة كوفيد-19، فرأى العالم قوافل الخير الإماراتية من الغذاء والدواء تطير إلى مختلف اتّجاهات الأرض، حتّى إلى قلب أبعد نقطة في العالم، حيث غابات الأمازون في قلب أمريكا اللاتينيّة.
أثبتت الإمارات طوال العامَيْن الماضيَيْن أنّها دولة عصرانيّة، دولة مواطنة لا تفرق بين أبنائها ولا بين المقيمين على أراضيها، فقد تمَتَّع الجميع بخدمات إنسانيّة واجتماعيّة على حدّ المساواة ومن غير تمايز طبقيّ أو محاصصة عقديّة، ولا تزال كلمات الشيخ محمد بن زايد آلِ نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، ترنّ في الآذان: “لا تشلون هم”، وفي موقفه الإنسانيّ النبيل هذا ما يكفي لتفسير لماذا باتت الإمارات قبلة المهاجرين من أرجاء العالم كافة، عربًا وعجمًا على حدٍّ سواء، هناك حيث المناخات الإنسانيّة الجاذبة لا الطاردة.
على عتبات العيد القوميّ الخمسين للإمارات، يصدر صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آلِ نهيان، رئيس الدولة، قانونًا هو الأوّل من نوعه في المنطقة يهتمّ بالأحوال الشخصيّة لغير المسلمين المقيمين في الإمارات.
الفكرة في حدّ ذاتها تُعَدّ أعلى درجة من درجات الإنسانيّة والأخلاقيّة، فالدولة هنا تعزز واحدة من أكبر مهامّها الكلاسيكيّة، أي خدمة شعبها والسهر على رعايته بشكل مطلق.
ولمّا كانت الإمارات رواق الأمم المعاصر، وهو أفضل تعبير يمكن أن يُطلَق على دولة تحتوي بمَوَدّة جنسيّات من دول الأرض كافة، يدينون بتوجّهات شخصيّة مختلفة، إذ لا يقتصر الأمر على أبناء الديانات التوحيديّة الإبراهيميّة، لذا كان هذا القانون الذي يحفظ الأنساب والحقوق الشخصيّة، كدرجة أعلى ما تكون من السموّ الإنسانيّ.
ويتساءل البعض: كيف ينتج الإماراتيّون ويحققون قيمة مضافة بلغة الاقتصاد، وهم يقومون على عقد مؤتمرات دولية تهتم بالشأن العالمي قبل المحلي؟
والحقيقة أنّ هذه هي عبقريّة القيادة والشعب الإماراتيّين القادرين على تعظيم قيمة الوقت وأهميّته، ولهذا يدركون السبق يومًا تلو الآخر، ولعلّ الناظر إلى مستويات التنمية الاقتصادية الإماراتية ومداخيل الشعب الإماراتي، يدرك كيف أنّهم يومًا وراء يوم يحقّقون طفرات اقتصاديّة، وينطلقون في آفاق رحبة من اقتصاد الابتكار، فيما الطبيعة الأمّ الرؤوم تجود عليهم باكتشافات متجدّدة وهائلة، تُستغلّ لصالح الإنسان الإماراتي، بل وإنْ شئنا الدقّة لصالح الإنسانية برُمّتها، إذ لا تكفّ الأيادي الإماراتيّة البيضاء عن العطاء صباح مساء كلّ يوم وعبر أرجاء الكوكب الأزرق.
قبل موعد الخمسينية واليوم الوطني، ها هي الإمارات تحرز انتصارًا غاليًا، فمع نهاية أعمال قمّة غلاسكو للمناخ جاء اختيار الإمارات لتستضيف الدورة الثامنة والعشرين، العام بعد القادم 2023، وهنا يتساءل المرء لماذا الإمارات مرّة جديدة؟
الجواب واضح وضوح الشمس، انطلاقًا من كَوْنها الدولة التي وضعتْ حدًّا زمنيًّا للوصول إلى حالة الحياد الصفريّ، أي أن تضحي الإمارات دولة خالية من انبعاثات غازات الاحتباس الحراريّ، ورصدت في طريق هذا الهدف الكبير والهامّ 600 مليار درهم.
الإمارات لديها من قبل مبادرات عديدة لمحاربة التلوث المناخيّ وتشجير الصحراء والمحافظة على نظافة البحار والمحيطات.
عطفًا على ذلك، فإنّ رؤية الإمارات للأزمة المناخيّة عقلانيّة وعصرانيّة في آنٍ، وبخاصّة تجاه الطاقة الأحفوريّة، التي يحتاج إليها العالم لعقود قادمة وحتّى يتمّ إيجاد البدائل الخلّاقة من الطاقة النظيفة، وحتّى لا تحدث فجوات تؤذي عمليّة التنمية المستدامة في طول البلاد وعرضها.
مسرّات الإمارات وهداياها المعنويّة والإنسانيّة للبشريّة لا تتوقَّف، فالعام القادم يحمل معه حدثًا مهمًّا للغاية، ألا وهو افتتاح البيت الإبراهيميّ، الذي يجمع أبناء إبراهيم في إطار وجدانيّ من الموَدّات الروحيّة التي كانت للخليل الأب، ومن غير خلطة بين الأديان، بل الحفاظ على كلّ منها في إطارها الروحيّ، واحترام كلّ منها للآخر، وهذه قصّة تحتاج إلى قراءة قائمة بذاتها.
وفي كلّ الأحوال، يتساءل المرء لمن تتوجَّب التهنئة في العيد الخمسين للإمارات؟!