إميل أمين
من جديد تسعى دولة الإمارات إلى الإمساك بالنجوم، وهي تسلك درب الشاعر العربي الكبير، المتنبي، في قوله: إذا غامرت في شرف مروم.. فلا تقنع بما دون النجوم.
في سبعينيات القرن الماضي، استشرف “زايد الخير”، الأب المؤسس رحمه الله، بخبرته وتجاربه الحياتية أن الأرض عما قريب سوف تضيق بالبشر، وأن الفضاء الخارجي قد يحمل حلولا للعديد من إشكاليات المسكونة وساكنيها، ومن هنا كان لقاؤه مع فريق وكالة “ناسا” للفضاء، المسؤول عن رحلة “أبوللو” إلى القمر، حيث كان اللقاء حافزا لتوجيه اهتمام الإمارات إلى الفضاء، ما أدى إلى ولادة قطاع وطني للفضاء في البلاد.
كانت رؤية الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، عند التقائه فريق “أبوللو” عام 1976، بداية مشوار من العزيمة والإصرار والحماس لبلورة حلم إماراتي، سيقدر له أن ينمو ويزدهر في أعلى عليين ليطال عنان السماء عبر خبرات بشرية إماراتية تعمل في حقل الفضاء من المتخصصين في العلوم الهندسية والجيولوجية والبيولوجية على حد سواء.
من هنا ولد مشروع “مسبار الأمل”، الذي وصل إلى المريخ في خطوة هي الأولى من نوعها في العالم العربي، لتعلن الإمارات أن الحلم قد تحول إلى حقيقة.
بدا كأن مشروع الإمارات ماض قدما من غير حد ولا سد، من خلال إعلانها عن رحلة جديدة في سياق ارتياد الفضاء، رحلة تتضمن بناء مركبة فضائية إماراتية، تقطع رحلة مقدارها 3.6 مليار كيلومتر تصل خلالها إلى كوكب الزهرة وسبعة كويكبات ضمن المجموعة الشمسية وتنفذ لاحقا هبوطا تاريخيا على آخر كويكب ضمن رحلتها، التي تستمر خمس سنوات.
حديث الأرقام يبين أن المسافة، التي ستقطعها المركبة الفضائية الإماراتية الجديدة، تبلغ سبعة أضعاف رحلة “مسبار الأمل” إلى كوكب المريخ، ما يعني أن المهمة ليست يسيرة، غير أنها هينة ولينة في دولة واعدة، تضع الفضاء ضمن مشاريعها الخمسينية القادمة، كما أن إيمان قيادتها باللا مستحيل يدعم ويزخم العمل الجاد صباح مساء كل يوم.
القيادة الإماراتية التقدمية، والتي تفكر بحزم وتعمل بحزم، تدرك من غير أدنى شك أن مجال استكشاف الفضاء لم يعد ترفا عصرانيا، بل حاجة واقعية، لا سيما في ظل التهديدات المحدقة بالكوكب الأزرق، كوكب الأرض، وبخاصة في ظل حالة التراخي الأممي تجاه إنقاذه.
من هنا تبقى النوافذ المفتوحة على الفضاء الخارجي طاقة أمل في بقاء النوع البشري.
وفي تغريدته على “تويتر”، تابع العالم وليس العرب فقط، ما سطره صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، عن المهمة الجديدة الخاصة باستكشاف كوكب الزهرة و7 كويكبات أخرى في المجموعة الشمسية، وتنفيذ أول هبوط عربي على كويكب.
ما الذي تعنيه تلك الكلمات؟
باختصار غير مخل، إنها “مسيرة إماراتية في بدايتها”، بحسب تعبير صاحب السمو، فهناك رحلات مستمرة، ومشاريع علماء فضاء، ورواد فضاء ومركبات فضاء.
الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم رجل له دالة على التاريخ، إذ يشير إلى أن “ثلث نجوم السماء كانت تحمل أسماء عربية”، ذلك لأن العرب كانوا رواد علم الفلك.
ساد العرب الحضارة العالمية بالعلم، والفضاء جزء أصيل فيه، وعلى من يود الاستزادة الرجوع إلى كتاب “تاريخ ضائع.. التراث الخالد لعلماء الإسلام ومفكريه وفنانيه” لمؤلفه الدبلوماسي الأمريكي السابق والمؤرخ والمفكر الكبير مايكل هاميلتون، وفيه نقرأ عن مناقشات دارت حول الكرة الأرضية بين الفلاسفة وعلماء الفلك المسلمين.
ويشمل هذا الجدل علماء مثل “البيروني” في القرن الحادي عشر الميلادي، و”الطوسي” في القرن الثالث عشر الميلادي.
الشاهد أنه حين تخطط الإمارات لرحلة فضائية إلى كوكب الزهرة والهبوط على كويكب يبعد عن الأرض نحو 560 مليون كيلومتر، وبعد نجاحها في فبراير 2021 في تحقيق إنجاز تاريخي بإرسال أول مسبار عربي إلى مدار المريخ، فذلك يعني، من غير تهوين أو تهويل، استئنافا لمسيرة حضارة عربية علمت العالم، وأن وقت الحركة قد حان الآن وهنا من غير تأخر أو تلكؤ.
تبدو الإمارات اليوم، وكما يشير إلى ذلك صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، أمام تحد تاريخي جديد، والتحديات دائما تصنع الرجال وتفرز القدرات الخلاقة.
الاختبار يتمحور حول الشباب الإماراتي الساعي لتحقيق طموح الأب المؤسس، الشيخ “زايد”، في الفضاء، وهو طموح يتركز على روافع سديدة من المؤسسات الوطنية الداعمة للبحث العلمي، ومن أكاديميات ومعاهد كرست جهودا علمية لتحقق إنجازات رفيعة القدر على هذا المستوى، وقطاع فضائي قادر على تولي مهمة المشروع الجديد.
هل يعد اختيار كوكب الزهرة من قبل برنامج الفضاء الإماراتي أمرا عشوائيا أو دعائيا؟
بالقطع لا يمكن أن يكون كذلك، لا سيما أن هذا الكوكب يعتبره علماء الفضاء “توأم الأرض الشرير”، والمصطلح هذا يحتاج إلى قراءات علمية معمقة، خاصة أن التغيرات التي جرت على سطحه عبر ملايين السنين يمكن أن تحدث على كوكب الأرض.
لهذا فإن هناك فرصة تاريخية للجنس البشري للاستفادة مما حدث هناك، ومن ثم تجنب المصير ذاته.
عطفا على ذلك، فإن كوكب الزهرة بات محط أنظار وكالات الفضاء الدولية الشهيرة، وفي المقدمة منها وكالة “ناسا” الأمريكية لأبحاث الفضاء، والتي أعلنت في أوائل شهر يونيو/حزيران المنصرم عن تنفيذ مهمة جديدة للمرة الأولى منذ أكثر من 30 عاما ترتبط بكوكب الزهرة، بعد ظهور مؤشرات تؤكد وجود حياة على سطحه، وربما كان أول عالم صالح للسكن في النظام الشمسي، مكتملا بمحيط ومناخ شبيه بالأرض.
في هذا الصدد، يقول البروفيسور جان لوك مارغو، أستاذ علوم الأرض والكواكب والفضاء بجامعة كاليفورنيا، إن كوكب الزهرة هو كوكبنا الشقيق، ومع ذلك لا تزال خصائصه غير معروفة.
ولعل المزيد من البحث العلمي يميط اللثام عن كثير من القواسم المشتركة بين الأرض وبين الزهرة، حيث إن كل الكواكب الصخرية لها نفس الحجم والكتلة والكثافة تقريبا، ومع ذلك فقد تطورت على طول مسارات مختلفة تماما، وتوفر الأساسيات، مثل عدد الساعات في يوم كوكب الزهرة، بيانات مهمة لفهم التواريخ المتباينة لهذه العوالم المجاورة.
ينظر العالم اليوم نظرة تقدير وإعجاب للإمارات في سعيها الإبداعي، وليس الاتباعي، خارج كوكب الأرض، لا سيما وهي تسعى لاستيطان المريخ بحلول عام 2070، إذ لم يعد الفضاء إلا الرديف الحقيقي للموارد، التي تنضب على الأرض من جهة، وحبل النجاة للخلاص من جنون البشر حال انطلاق حرب نووية وسعي البعض إلى إهلاك الجنس الآدمي.
وفيما تحتفل الإمارات بـ”إكسبو 2020″، رواق الأمم المعاصرة، ها هي مرشحة لقيادة تحالفات حضارية بشأن إرساء احتياطي للحياة البشرية خارج الكرة الأرضية، بحيث يمكن في حالة فناء الحضارة الإنسانية على الأرض أن يتم إعادة إعمارها من جديد.
إنها أفكار الابتكار والإبداع.. إنها الإمارات التي تحقق أحلامها دون سقف.