تتراءى صفحات معتمة، من وراء الباب المغلق، في حياة الشاعرة المُطَوقة فدوى طَوْقان، شاعرة فلسطين في القرن العشرين، التي كرسَت شعرها للمأساة الفلسطينية، بالذات تصوير معاناة شعبها اليومية، في ظل الاحتلال الإسرائيلي، للضفة وقطاع غزة والقدس الشرقية عام 1967 فكتبت شعرا ثوريا يدعو إلى مقاومة الاحتلال واقتلاعه. قال عنها وزير الحربية الإسرائيلي آنذاك موشيه ديان في أكتوبر/تشرين الأول عام 1968 لرئيس بلدية نابلس حمدي كنعان، كما كتبت في سيرتها «تكفي قصيدة من قصائدها لخلق عشرة من رجال المُقاومة» ( الرحلة الأصعب ـ الشروق)، من ناحية أخرى، عانت الشاعرة من الاغتراب داخل عائلتها، كما عانت من القمع الذكوري في مجتمعها النابلسي.
فدوى طوقان وموشيه ديان وحاييم نحمان بياليك
بعد حرب يونيو/حزيران 1967 وتحديدا في عام 1968 كما تسرد فدوى طوقان في القسم الثاني من سيرتها المُعنوَنة «الرحلة الأصعب»، المكرسة لمعاناة الفلسطينيين في ظل الاحتلال، طلب موشيه ديان، من رئيس بلدية نابلس التقاء الشاعرة، وقد ذهبت الشاعرة بمعية رئيس بلدية نابلس وفي سيارته وبمرافقة عمها قدري طوقان، لالتقائه في بيته في تل أبيب، وقد اشترك في الجلسة اثنان من مستشاري ديان وهما، ديفيد فرحي وديفيد زخاريا، وزوجة ديان وابنته الكاتبة والصحافية ياعل. استمرت الجلسة ساعتَيْن من الثالثة إلى الخامسة عصْرا، بادرها ديان قائلًا وقبل أن يجلس: «أنت تكرهيننا، لقد قرأت بعض قصائدك مترجمة إلى العبرية. إنها تفيض بالكلمات العاصفة ومشاعر الكراهية». أجابته فدوى طوقان: «لستُ أكرهكم كيهود، لكني أكرهكم كمُحْتلين». كان يقصد ديان بقصيدة فدوى طوقان «آهات أمام شباك التصاريح» التي كتبتها بعد احتلال نابلس عام 1967 على إثر قيام جندي إسرائيلي بشتمها وإهانتها ودفعها بقوة، بعد أن انتظرت سبع ساعات أمام شباك التصاريح في جسر اللنبي. في هذه القصيدة اتهمت فدوى طوقان، بأنها حرّضت على قتل الجنود الإسرائيليين وأكل أكبادهم، بسبب استحضارها، قصة هند بنت عتبة القرشية التي عاشت قبل الإسلام وبعده، والتي نُسِبَ إليها أنها أكلت كبد حمزة بن عبد المطلب، تصور فدوى في قصيدتها تصرف الجندي (عرب، فوضى، كلاب/ ارجعوا، لا تقربوا الحاجز، عودوا يا كلاب)/ ويد تصفق شباك التصاريح/ تسد الدرب في وجه الزحام/ آهٍ، إنسانيتي تنزف، قلبي/ يقطر المر، دمي سُم ونار/ عرب، فوضى، كلاب /…./ صخرةٌ قلبي وكبريتٌ وفوارةُ نار، ألف «هندٍ» تحت
جلدي جوع حقدي/ فاغرٌ فاه، سوى أكبادهم لا/ يُشبعُ الجوعَ الذي استوطَنَ جلدي/ آه يا حقدي الرهيبَ المُستثارْ/ قتلوا الحب بأعماقي أحالوا/ في عروقي الدمَ غسلينا وقار».
لقد ردت فدوى طوقان على هذه التهمة بأنها استوحت قصيدتها من قصيدة الشاعر العبري حاييم نحمان بياليك «أناشيد باركوخبا» التي يقول فيها على لسان باركوخبا، مُخاطبا القائد الروماني، الذي كان يحاصر اليهود في قلعة مسعدة، بأنه بغضب وحشي سيشرب دمهم وبلا رحمة.
رسائل فدوى طوقان مع الأديبة ثريا حداد والحبيب المُشتهى
في عام 2018 قام الإعلامي سمير حداد، أخ الأديبة الأردنية ثريا حداد التي رحلت عام 1996، والتي عملت أستاذة اللغة العربية لغير الناطقين بها في جامعة جونز هوبكنز، بنشر 30 رسالة، كانت قد كتبتها الشاعرة فدوى طوقان لأخته ثريا حداد بين الأعوام 1977 و 1996 (طباق للنشر والتوزيع – رام الله )، وقد حرر هذه الرسائل وقدّم لها الشاعر المغربي عبد اللطيف الوراري. هذه الرسائل التي لا تحمل ردود ثريا حداد، هي مرايا عاكسة لمزاج فدوى طوقان، ولأسرارها الدفينة وتجربتها العاطفية غير المُثمرة والحزينة، فهي أحيانا غاضبة وأخرى عاتبة. كما تُفضي فدوى طوقان، في رسائلها عنْ غُربتها في الوطن، وعن مُعاناتها في ظل الاحتلال الإسرائيلي، وعن الحصار الثقافي والقطيعة مع العالم العربي، ومنع وصول الكتب إليها، وعن عيشها في جو العائلة وتعلقها بأختها المريضة، وعن إقامتها في لندن بين عامَي 1962- 1963. تتحدث فدوى في الرسالة الأولى المؤرخة في 2/9/1977 والمُعَنْوَنَة من قبل المُحَرر بـ»نفثات حُب جريح»، عن زيارة ثُريا حداد لها عام 1961 بصفتها رئيسة رابطة راهبات الوردية في عمان، التي تعرفَت إلى فدوى بعد أن استضافتها في أمسية شعرية في عمان. لكن مُعظم الرسالة بَوْحٌ عن تجربة حب فاشل بينها وبين أخ ثريا المذيع في قناة الجزيرة الإعلامي سامي حداد، الذي توفي في يناير/كانون الثاني 2021. فتقول فيها «هل حدثك سامي عن الصمت الجليدي الذي اكتنف صداقتنا الحميمة؟ إن الصمت لغة الغرباء، فهل قال لك إننا أصبحنا غُرباء؟ في قلبي أشياء، وفي نفسي أشياء وفي عقلي أشياء، ولكنني أصمت وأنكفئ على نفسي، لأن ما أريد قَوله لا يُقال إلا في جلسة أكون معك خلالها وجْها لوجه، وليس عبر هذه المُحيطات التي تفصلنا». وتكتب في هذه الرسالة باللغة الإنكليزية أن سامي خذلها Sami has let me down .
وفي رسالة أخرى من تاريخ 8/12/1977 تكتب فدوى «ولن يهون عليّ (سامي) أبدا. وإذا كان لا بد من أن ينتهي كل شيء في هذه الحياة فليس من المحتوم أن يتم ذلك في جو مشحون بالمرارة وسوء الظن. سيظل سامي صديقا حبيبا مهما باعدت بيننا المسافات والحواجز التي تقيمها الكبرياء والمُكابرة». وفي رسالة أخرى بتاريخ 14/6/1980 تبوح فدوى بخلجات قلبها تجاهه «سُعدتُ هذا الصيف بسامي كما لم أسعد من قبل. وعرفته كما لم أعرفه من قبل. سامي الحقيقة، وليس فقط سامي خيالي ورؤياي. إنهُ حقيقةٌ جميلةٌ يُختصر فيه كل الجمال الذي في هذا العالم. كَم هو حبيبٌ إلى قلبي وروحي». وفي الرسائل قصيدة بعنوان «سلامٌ من نسيم التيمز» كتبتها فدوى عام 1980 أثناء وجودها في لندن، جاء فيها: «سلامٌ من نسيم «التيمز» أنْدَى/ وشَوْقٌ يا ثُريا ليس يهْدا/ هُنا فَدْوى، هنا سامي المُفدى/ صَفا لهما اللقاءُ وطابَ وِرْدا». وفي ديوان فدوى طوقان (بيروت، دار العودة 1997) قصيدة بعنوان «إلى الوجه الذي ضاعَ في التيهِ» مُهداة إلى J..، ومن معانيها واضحٌ أن المقصود فيها «جميل» أخ ثريا، وقد ورد فيها: «آه، لا تملأ بطاقتك لي/ بشذى الذكرى وباقات الهوى/ بين قلبي ورفاه الحب صحراءُ/ حبال القيظِ فيها تلتوي/ تلتفُ من حولي أفاعي/ تخنقُ الزهرَ تفح السم فيه/ واللظى/ لا تَقُل لي اذكريني/ لا تَقُل لي/ عتمَت ذاكرةُ الحب وغامَتْ». تتضح من هذه الرسائل مُعاناة فدوى طوقان وعذاباتها المتنوعة واللامتناهية، بسبب الأحداث المأساوية التي مرّت بها، وميلها إلى العزلة والتوحد وعيْشُها بيْن طَوْقَيْنِ، كما يدل اسم عائلتها (طَوْقان)، طَوْق الاحتلال وطَوْق البيت والمجتمع.