بروين حبيب
يعتقد البعض أن الخرافة انتهت ولم يعد لها حضور في مجتمعنا المعاصر، لكن الحقيقة تقول غير ذلك، إنّها حاضرة تماما كما كانت في مجتمعات سابقة، ولا تزال تسيطر على نسبة واسعة من العقول حتى في الدول المتطوّرة.
وإن كانت خرافات الزمن الماضي تبدو لنا طريفة ومسلية وغير قابلة للتصديق، فإن خرافاتنا المعاصرة محبوكة بشكل متقن لتناسب العصر ومعطياته. ومن هذه الخرافات، الخرافة التي تقول إن كل من أخذ لقاح كورونا سيموت بعد سنتين، أو أن شريحة إلكترونية زرعت تحت جلده، بحيث أصبح مراقبا، وبالإمكان تفجيرها والتخلص منه في أي لحظة. يعتقد البعض أن الاحتباس الحراري خرافة لاستنزاف أموال دول بعينها، كما يعتقد آخرون أن إعادة إحياء الديناصورات والكائنات المنقرضة خرافة، إلى أن تم استنساخ النعجة دوللي، وتم العثور على بقايا حيوانية مجمدة في القطب الشمالي، فتوضحت الصورة المرعبة، التي يمكن أن تحدث إذا ما تم استنساخ الديناصورات.
في القصص الشعبي كان السجّاد الطائر خرافة، والفانوس السحري أيضا، والجنيات والساحرات، وتعدد الآلهة وأمور أخرى رُبطت بالماضي السحيق كلها خرافات كان بالإمكان تصديقها إلى عمر معيّن، قبل تخطيها تماما، ونسفها من المعتقد الاجتماعي بحيث أصبحت تروى للأطفال تحت عمر الثماني سنوات، وربما لأقلّ منه، كون عقل الطفل اليوم تطوّر، بحكم تلقيه لمعلومات كثيرة يوميا عبر وسائل تعليمية كثيرة، منها أحاديثنا اليومية، أصبح لا يصدّق أي شيء يسمعه بسهولة.
علماء الإثنولوجيا يؤكدون أن الخرافة موجودة لدى جميع المجتمعات، بما في ذلك المجتمعات التكنولوجية، التي قطعت أشواطا كبيرة في عالم الحقيقة الملموسة، لكن حاجة الإنسان إليها لا تفسير لها، إذ يبدو أنها تغذي المخيلة الأدبية، وبعض المحفزات العلمية، وتقود التفكير في توجهات مقصودة. حرفيا يرتبط الخيال العلمي بالخرافة المعاصرة. وبالرجوع للمجال الثقافي الذي تظهر فيه، يتبيّن لنا جليا أن الغرب الحديث، يعطي مكانة بارزة للعلم، ومن هذا الباب استمدّ قوة الخرافة من التراثيات الشعبية، ومنحها شكلا وتوظيفا عابرين للأزمنة، ليتناسب مع تطلعات مجتمعاته. هل اقتنى أحدكم عطر «بوكاهنتس» لابنته؟ أو دمى على شاكلتها؟ أو ألعابا إلكترونية؟ حسنا، سواء حدث هذا الأمر أم لم يحدث، فإن ليفي شتراوس في جمعه وتحليله للمجتمعات الأمريكية الهندية، أبرز دورها في الأعمال المنتجة في المجتمعات الغربية الحديثة. وخرافة «بوكاهنتس» مجرّد نموذج من موروث شعبي هندي، يوضح إلى أي مدى تمّ توظيف أسطورته خارج سياقها القصصي، لتصبح «ماركة» تجارية لسلع يستهلكها الأطفال وهي تنافس رموزا أسطورية أخرى تطوّرت وفق المعطيات المعاصرة.
لسبب كهذا أيضا تساءل ذات يوم ستيفن سبيلبيرغ «ماذا لو كبر بيتر بان؟» وقدمّ إجابة طويلة في شكل فيلم أُنتح سنة 1991 سماه «هوك» لم يكن سوى اقتباس ذكي لأسطورة قديمة منحها روحا معاصرة، انتهت بقتل الشرّ بصورة تتناسب مع تفكير الأطفال، لكن بناء القصة وتحديث تفاصيلها كانت له مرجعية علمية. لقد اعتاد علماء الأعراق البشرية على النّظر إلى الأساطير والخرافات كأدلّة رمزية تكشف تداخل حقائق هذا الكائن البشري في تجمعاته المختلفة، فكل تلك الشخصيات الرمزية المستخدمة في السرد القصصي، سواء كان شعبيا أم خياليا علميا، فإنّها وليدة ديناميكية واحدة، لا حدود بين قطاعاتها في الواقع، وتخضع ترجمتها إلى فهم قوى الطبيعة، والواقع الاجتماعي للإنسان. ولو افترضنا أن ولادة خطاب مُجادل للخطاب القديم، الذي تغذّى كثيرا على اللامعقول من الأفكار الميتافيزيقية، أدّى إلى ظهور تيار فلسفي مهّد لظهور خطاب علمي، فإنه من المسلمات اليوم اعتبار عصرنة الخرافة والأسطورة، عاملا مهما فتح دخول المجتمعات الغربية إلى الحداثة.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ظهرت مجموعة جديدة من الروايات، تحمل تطلعات مستقبلية، كحاجة ملحّة للإمساك بزمام الأمور، والتحكم في مصير الإنسان، بعد أن أصبح الماضي ثقيلا بكل محمولاته اللاهوتية والماورائية الغامضة. وهكذا ولدت «خرافات» أقرب منها لتحريض العقل على الاشتغال وفق خطط جديدة، بعيدا تماما عن الاستسلام لتأثيرات الموروث الذي يقصف عمل العقل ويعطّله.
في سنوات مضت لمن يتذكّر مرحلة ظهور فيروس الإيدز للعلن، سال حبر كثير بالتهليل لنهاية أمريكا بسبب هذه اللعنة، لكن الفيروس عبر الحدود وانتشر في العالم، وفي ما خصصت مبالغ ضخمة لاكتشاف علاج له، ظلّت خرافة «اللعنة» تسكن أدمغة كثيرين، مستبشرين ببدء انقراض الزناة والشواذ جنسيا والملحدين! تقدّم العلم في صمت خارج ضوضاء أتباع الخرافة، وقلّص من حجم كل تلك الأهوال المتوقعة، لم تنته أمريكا، ولم ينقرض أيٌّ ممن رُبِطت مصائرهم بظهور الفيروس، ثم نسينا تماما إن كان موجودا، إلى أن ظهر فيروس كورونا المستجد، فعاد الخطاب نفسه إلى العلن، ولا يزال دعاة الخرافة يروّجون لعملية خبيثة لتصفية البشر من على الكوكب، والغريب أن هذه الخطة الخرافية نُسبت لبيل غيتس، في دفاع مبطّن عن الخرافة ضد العلم.
يدّعي الكتّاب وصنّاع الأفلام أن أتباع الخرافة مُلهِمون حقا، لأنّهم يمثلون الجانب الظلامي من هذه الحياة، والشّق الكوميدي منها، وأنّه لا مجال لتهميشهم على الرّغم من انهزامهم دائما أمام انتصار الخير والعلم، إنّهم يحررون المخيلة من الواقعية المقيّدة، يتمّ تجسيد الحروب المستقبلية حسب هذه المعطيات الجديدة للخرافة، حين يتصدّى أبناء الأرض النّموذجيون للأعداء القادمين من أعماق الأرض، أو خارج غلافها الجوي، وغالبا ما تتجسدهم الفيروسات المتحورة والأوبئة والحشرات العملاقة والكائنات الشريرة التي تشبه الحيوانات.
تشكّل الأساطير بكل ما تحمله من خرافات ومتناقضات يرفضها العقل، الأرضية المتينة لصرح ثقافي عظيم، يشير أولا إلى حجم التطوّر الهائل الذي مرّ به الإنسان، وبلا شك فهي تشير أيضا إلى مرور المعرفة بمرحلة طويلة من التخيلات قبل لمس الحقائق. أُعيد تقييم الأسطورة اليوم، كما حُدّد شكل الخرافة وحجمها لدراسة أي مجتمع في عصره. وبدقّة مخيفة نحن أبناء خرافاتنا، ووفقها يتحدّد المكان الصحيح الذي نشغله في سلم التطور العالمي. ومن هذا المنطلق فإنّ أي تحديث لمخزوننا «الخرافي» ينبئ بمسار تطورنا على معْلم الزّمن. وأقصد بالتحديث هنا تحفيز الفكر الحالي لنقد مفاهيم بنيت على «اللامعقول» وأمثلته كثيرة في التراثين الديني والشعبي.
لنسجل أن الأساطير والخرافات دعمت دائما الحس الأخلاقي، إلى أن أصبح فكرة تجريدية، فقد صدّق النّاس أوهاما كثيرة فقط لأنّها غُلّفت بغطاء ديني. كما تأثروا بفكرة البطل الخارق الذي يهزم جيوشا لوحده، وتمنوا أن يكونوا مثله، ما جعل السينما تبتكر أبطالا خرافيين يختلفون عن أبطال الأساطير القديمة، لكنهم يملكون طاقات أقوى مثل، سوبرمان وسبايدرمان والرجل الوطواط وغيرهم. ويقال إن تجديد الخرافة وتطويرها يعود لعجز العقل عن معرفة ألغاز الكون وسر الحياة والموت، ولأنه يرفض الاعتراف بجهله، فيلجأ للمراوغة وابتكار الأكاذيب المُرخّصة، «شيء معقّد في دماغ الإنسان يمثّل مخاوفه ورغباته في شكل قصة بسيطة نسبيا، يجعله يصدقها» إنّها كطقس من طقوس المعرفة دون شك، وإلاّ ما استمر وجودها.
لكل شخص أساطيره الخاصة التي يصدّقها، وهي تمثل رابطا بين الجماعات. فالجماعة التي تؤمن بأن الأرض مسطحة، تتضامن مع بعضها، وتلك التي تؤمن أن الإنسان الأول على الأرض هبط في مركبة فضائية من كوكب آخر، لديها ما يربطها ببعضها، والمسلسل طويل ولانهائي، فالخرافة زاد لتغذية القناعات، وإمتاعٌ لشهوة غامضة وحتما إشباع لسلطة ما. تقول حكمة قديمة يمكن بناء أمّة بأكملها بالتأسيس لها بمجموعة أساطير، تماما كما يبنى بيت، وبمجرّد تماسك أساسته يمكن إزالة السقالات الرمزية.
هنا يكمن سر قوة الأسطورة والخرافة، التي تحوّلت اليوم لأقوى سلاح سياسي، يصل حدّ تنويم مجتمعات، أو إيقاظها، أو إدخالها في حروب أو دفعها للسلام.. وكل ما تحتاج إليه كُتّابٌ بمخيلات متقدة ومبدعون في المجال السمعي البصري، وشبكة إنترنت.