على الرغم من انقضاء فترة على مشهد «الصفعة» الذي شاهدته وملايين الناس على شاشة التلفزيون الفرنسي لحظة وقوعه، ما زلت أحمد الله لأن الفاعل لم يكن مسلماً. فقد حدث أن جاء رئيس الجمهورية الفرنسية السيد إيمانويل ماكرون كعادته للسلام على الذين تجمعوا لمصافحته محاطاً بحراسه، لكن أحد الواقفين لم يصافحه بل صفعه، والصفعة قتل رمزي وظاهرة عنف، فهو ممثل الديمقراطية الفرنسي.
تلك الصفعة التاريخية!
صورة اللحظة التي صفع فيها أحد الواقفين رئيس الجمهورية الفرنسية بدلاً من مصافحته، أخافتني للوهلة الأولى، إذ خفت أن يكون الفاعل مسلماً وتنعش بذلك حركة «الإسلاموفوبيا» في فرنسا وسواها. و«الإسلاموفوبيا» ناشطة! ثم تبين أن من صفع رئيس الجمهورية فرنسي جداً، ولا صلة لنا كعرب بالحكاية، واسمه داميان تاريل.
وكان في وسع الذي صفع السيد إيمانويل ماكرون طعنه بخنجر أو إطلاق الرصاص عليه، لكن داميان (الصافع) لم يفعل شيئاً من ذلك، وعنفه رمزي. وحراس رئيس الجمهورية صاروا بعد اليوم أكثر تنبهاً لحمايته من حبه لمصافحة الناس الذين يتجمعون للقائه واستقباله وحتى للحوار معه أحياناً، بل والشكوى له كما حدث في لبنان.
الرئيس ماكرون في لبنان
حمدت الله لأن شيئاً كهذا لم يحدث لرئيس جمهورية فرنسا حين زار لبنان مرتين بعد الانفجار المروع في 4 آب (أغسطس) في مرفأ بيروت، وعرض المساعدة المادية المشروطة بتأليف حكومة كي لا يذهب المال (كسواه) إلى حفنة من المسؤولين وبينهم من يسرق أموال الناس والتبرعات أو معظمها. كان من السهل حين زار ماكرون لبنان أن يأتي من يصفعه أو يغتاله. تلك السيدة التي ضمت إليها ماكرون وهي تبكي وتشكو واقع الحال، وسواها كثير، كان بوسعهم طعنه بخنجر أو إطلاق النار على قلبه المحب للبنان.
حراس الرئيس ماكرون
صار بعد تلك (الصفعة) من واجب حراس رئيس جمهورية فرنسا أن يتوقعوا أحداثاً كهذه، وبالتالي منعه من ممارسة تواضعه الطبيعي وحبه لمصافحة الناس، فقد يؤدي ذلك إلى تسهيل قتله في زمن العنف.
وما يهمني أولاً، بصفتي عربية، هو أن «داميان» الرجل الذي صفع رئيس جمهورية فرنسا، لم يكن مسلماً ولا عربياً.. وأن الحكاية المؤسفة فرنسية جداً، والمسؤولية تقع على حراس الرئيس الذين لم يتوقعوا أمراً كهذا، لكننا كمسلمين وكعرب وكلبنانيين، أبرياء من تلك السابقة التي لم يحدث مثلها من قبل: صفع رئيس الجمهورية!
لا يمكن لذلك أن يحدث عندنا!
تدل الصفعة على مدى الحرية الديمقراطية في فرنسا. تخيلوا معي لو أن مواطناً عربياً من بلد ما صفع رئيس جمهوريته، ما الذي سيحدث له؟ سيموت طبعاً تحت صفعات رجال المخابرات، وستتم معاقبة حراس الرئيس العربي. ثم إنه قلما يقوم رئيس عربي بمصافحة رعاياه أو يتاح لهم الاقتراب منه لصفعه. هذه الصفعة من «داميان تاريل» لا يمكن أن تحدث في بلد عربي. وحتى في لبنان الديمقراطي، لم يرافق الرئيس ميشال عون زميله الفرنسي في جولته بين الناس، ولم يبك أحد على كتفه كما فعلت تلك السيدة على كتف الرئيس ماكرون. ما من بلد عربي على الأرجح يذهب حاكمه لمصافحة الناس وتركهم يلتقطون معه صور (السيلفي).. والسؤال الآن: ما الذي سيحدث للفرنسي داميان تاريل الذي صفع رئيس الجمهورية؟ لن يموت ضرباً في أقبية أجهزة المخابرات، بل ستتم محاكمته علناً والحكم عليه كما يقتضي القانون الفرنسي.. وهو ما حدث. ما أجمل الديمقراطية، وكم نحنّ إليها في معظم عالمنا العربي، وسيمر الزمان وقد ينسى حكاية تلك «الصفعة» لكننا كعرب لن ننسى ذلك لأننا نعرف الثمن الذي كان سيدفعه أي مواطن عربي لو اقترف الصفعة، وهو ثمن قد يطال حياته!!
الاختراعات: شوهتنا أم عرّتنا؟
وأتحدث الآن عن التشويه النفسي والروحي، إذ روعني من صحافيين قاموا بتصوير رجل أضرم النار في نفسه أمام مقر الأمم المتحدة في أربيل، وبدلاً من إطفائه وإنقاذه من الموت، تركوه يموت لتصوير المشهد. ولم يرم أحد بالكاميرا ليحاول إطفاء ذلك المنتحر وإنقاذ حياته! هل صارت الصورة أكثر أهمية من حياة إنسان؟
هل الإنسان سلعة لخبر صحافي؟ هل صارت الحياة أرخص من ثمن تحقيق (جذاب) لجريدة ما؟
إذا شاهدت جارك يحاول الانتحار بإحراق نفسه، هل سترمي به مثلاً في بركة السباحة لإطفائه وإنقاذ حياته، أم ستتركه يموت؛ لتصوير المشهد و(قبض) ثمن الصورة؟
الخبث الإعلامي الإسرائيلي!
سأل صحافي غربي صحافياً إسرائيلياً عن ضحايا المواجهة الأخيرة مع غزة، فقال: 252 ضحية. وهذا صحيح، لكنه لم يقل له إن عدد ضحايا الفلسطينيين 240 ضحية، والإسرائيليين 12 وأن هؤلاء الـ 12 اعتدوا أساساً على أرض أبناء فلسطين! إنه لم يكذب، لكنه لم يقل الحقيقة أيضاً، هذا هو الإعلام الإسرائيلي!
الشرير الإسرائيلي
أحب قراءة الصفحة الخاصة (في «القدس العربي») المترجمة عن مختارات من الصحافة الإسرائيلية، وروعتني مقابلة صحافية بين الطيار الإسرائيلي وجدعون ليفي لصحيفة «هآرتس» 30ـ5ـ2021 اذ قال: شعرت براحة حين ألقيت بالقنبلة على غزة وأطفالها! وسرني أن الذي حاور الطيار قال معلناً: شعرت بالخجل لكوني إسرائيلياً.
والذي يجب أن يشعر بالخجل حقاً هو ذلك الطيار الحربي الذي شعر بالراحة حين ألقى القنابل على غزة وأطفالها.. ويتساءل كاتب المقال جدعون ليفي: «ألا توجد كلمة تأسف واحدة (على قتل أطفال فلسطين)؟ تألم؟ ذرة من المسؤولية؟. ذرة من الشعور بالذنب؟ الأطفال هم المذنبون فقط».
ثمة قلة من الإسرائيليين الأدباء تعي ما يفعلونه بالشعب الفلسطيني وأطفاله وأسراه وسجنائه.. وهو يقاوم.. ويقاوم..
ترى هل ثمة صحف إسرائيلية تترجم ما نكتبه من حسرة على الشعب الفلسطيني منذ زمن النكبة حتى اليوم، زمن الشتات، زمن المقاومة على الرغم من كل شيء؟