الدخول إلى تايلند في زمن كورونا هو عمل شاق. في المطار تستقبلك مخلوقات ببدلات فضائية، وعندما تحييك بتحية نامستا، تبتسم لك عيونها الآسيوية. بعدها تدخل الحجر الصحي في فنادق مخصصة لهذا الغرض، وفي غرفتك نافذة واسعة تمنح المكان أبعاداً إضافية، وتوهمك بالخارج، لكن تبقيه وهماً، وتشعر بأنك سمكة عالقة في أكواريوم. ولا شيء يكسر الصمت من حولك، إلا الموسيقى المنبعثة من المذياع، وكأنك ترى العالم عبر أذنيك، فتدور حول نفسك كالصوفي، محاولاً تذكر رقصة البجع الأخيرة.
لكن الزمن يمر ثقيلاً، وكأنك في لعبة الكراسي، وكلما تناقص عدد الكراسي في الممر الطويل قرب غرفتك، قل عدد النزلاء وزادت وحشة المكان. وعندما يأتي دورك لتغادر، تطأ الأرض بقدميك بحذر شديد، فالأشخاص الطيبون في تايلند يمشون على رؤوس أصابعهم، كي لا يزعجوا الآخرين. وأول ما ستقوم به بعد ذلك هو خلع حذائك على عتبة البيت، فالأقدام التي تلمس وسخ الشارع تزدرى، بينما الرأس يقدس، فخير الأعضاء الرؤوس. وستكتشف مع أول تجربة لك مع المساج التايلندي، أن قدمك تغسل بعناية قبل أن تدخل غرفة التدليك، بينما تغسل المدلكة يديها بعناية قبل أن تلمس رأسك. فاستعد بكل ما تمتلك من حواس فأنت الآن في بلد الحواس.
تايلند الحواس
تقنية التدليك التايلندي تتبع مواطن الألم وتسكنها، وهي تقنية قديمة تحولت مع قدوم السياح إلى دعارة مستترة بنهاية سعيدة، فلا حدود للأعضاء المدلكة تحت لافتة التدليك. وتعتبر الأصابع الطويلة لمدلك أعمى، الأغلى ثمناً، ففي أطراف الأصابع الخمسة، تجتمع الحواس الخمسة كلها. أما حاسة التذوق فهي الأشهر في تايلند، ويعتبر المطبخ التايلندي منتجاً ثقافياً بامتياز، بل إن الثقافة بمجملها تدور حول الطعام، الذي هو متعة التايلنديين الأولى. فهم يأكلون على مدار الساعة، وأرصفة الشوارع مليئة بعربات الباعة الجوالين، الذين يطهون أطباقهم المميزة على الرصيف، وكأنهم طهاة خمسة نجوم، وقد استطاعت الطاهية العجوز سيبينيا الفوز بشوكة ميشلين الذهبية، من دون أن يمنعها هذا من مغادرة الشارع والطاولات الأربع المرصوصة بعناية للمحظوظين من المارة، الذين سيحصلون على طعام فاخر بأسعار الرصيف. ومع أن لا سكاكين على موائد التايلنديين، إلا أن المعارك تخاض في المطابخ لا في ساحات الوغى. ويكثر الطلب على دروس تعلم الطبخ، في حين تبقى دروس تعلم اللغات الأجنبية شبه فارغة.
تايلند المقدسة
«أهلاً بكم في بلاد بوذا» هكذا ترحب تايلند بزوارها في المطار. وعلى الطريق ستحييك تماثيل بوذا بوضعيات مختلفة، فاليد المفتوحة لمنح الطاقة الإيجابية، والمرفوعة لطرد الطاقة السلبية، والمتشابكة للتأمل والسمو، أما عندما تلامس اليد اليمنى الأرض فهي كناية على التنوير، والأرض على هذا شاهدة. والحكاية تقول إن بوذا بلغ التنوير تحت ظل شجرة التين، ولهذه تعتبر شجرة التين مقدسة في البوذية، حالها كحال زهرة اللوتس التي تزهر من الطين، لترمز إلى الخلق، وكثيراً ما تراها معلقة في المعابد، أو طافية فوق المياه كتعبير عن السلام الروحي. وتتبع البوذية في تايلند المنهج السلفي «تيرافادا» وتعاليمها تشبه تعاليم الأديان السماوية في تحريمها للقتل والسرقة والكذب والزنى، إلا أن بوذا ليس نبياً، بل معلم، وفلسفته تتلخص في الانتصار على المعاناة البشرية من خلال الزهد بالمتع. لكن على أرض الواقع خطايا التايلنديين حاضرة في كل مكان، وحتى الرهبان الذين يعيشون التقشف، لا يتنازلون عن الهواتف المحمولة، ويتذوقون ألذ الأطعمة التي يحضرها لهم المؤمنون في ساعات الفجر الأولى، قبل أن يدخلوا عند الظهيرة في صيامهم الطويل. واختلاف البوذية عن الأديان السماوية يكمن في مفهوم الموت، الذي هو استمرارية وليس نهاية، فدائرة الحياة تكتمل بالموت، ويبعث الإنسان من جديد في عالم البشر أو الأشباح أو الحيوان. وعبر الكارما تبعث الروح العاصية على هيئة حيوان، وربما هذا يفسر تعلق التايلنديين بالحيوانات، ففي أرواحها تعيش أرواح السلف. ويبلغ دلال التايلنديين للحيوانات أحياناً حد الجنون، فليس غريباً أن يوضع الكلب في عربة الأطفال، وتطعم قطط الشارع حد التخمة، بل حتى الجرذان تبدو حيوانات أليفة وهي تعبر الشارع بلا ضجيج.
ويختلط الدين في تايلند كثيراً بالغيبيات، حيث توضع على مداخل العمارات، بيوت خشبية صغيرة للأشباح التي تحرس المكان، ويستعاض عن دم الأضاحي بزجاجة مياه غازية حمراء، كما تقدم الأزهار وسلال الفاكهة، فأشباح التايلنديين مثلهم تعشق الطعام. كذلك تحضر الكثير من الآلهة الهندوسية في المعتقدات الدينية للتايلنديين، مثل إله الجهات الأربع الذي يحرس البيوت، وإله الشجر الذي قد يقود غضبه المرء نحو حتفه، لهذا تزين الأشجار بمناديل ملونة طلباً للرحمة. وتصنع قوارب صغيرة من أوراق الموز وتزين بالورود، لتقدم لإله الماء في احتفال سنوي، طلباً للمغفرة عن تلويث الأنهار والبحار. أما الاحتفال بالسنة الجديدة حسب التقويم القمري، فيكون عبر رش الماء على تماثيل الآلهة، وعلى الأجساد لغسلها من الذنوب. وفي بلاد الأمطار الموسمية كل شيء يبدو سائلاً حتى الوقت، الذي لا يوقف جريانه سوى النشيد الوطني الذي يعزف ثلاث مرات يومياً، ويجبر التايلنديين على الوقوف احتراماً له، أما الوقت الفائض فيجزى بالمرح، وما لا يستطيع المرء إنجازه اليوم، قد ينجزه في صباح حياته المقبلة.
تايلند الخطيئة
يزور تايلند سنوياً 40 مليون سائح، وكثير منهم بدافع السياحة الجنسية، ففي ليل تايلند تعود المياه إلى سكونها، ويسكب الخمر بوفرة في الملاهي والبارات. وبينما يخلد الرهبان باكراً إلى النوم، يخرج الليبيدو من مخبئه، ويصبح كل شيء مباح خلف الأبواب الموصدة. وعلى الرغم من منع أحد المعاجم الإنكليزية بسبب ربطه بين الدعارة وتايلند، إلا أن حضور الدعارة لا تخطئه العين، ولها أكثر من شارع ومكان، بالإضافة إلى أن المثلية الجنسية لا يحرمها دين أو عرف في تايلند، وهناك تسامح كبير مع عابري الجنس، الذين يلقبون «بالجنس الثالث» ويعملون في جميع مجالات الحياة. ولا حدود واضحة بين الجنسين في تايلند، فليست الأسماء وحدها تصلح للجنسين، بل حتى أجساد النساء والرجال تتشابه إلى حد بعيد، وكثيراً ما تجد رجالاً يعملون في مجال التجميل، ونساء يعملن في ورشات البناء، ومع كل هذا التشويش الجنسي، يصبح سؤال بسيط عن الهوية الجنسية في غاية التعقيد. وتستقطب السياحة الجنسية الرجال الأوروبيين من جميع الميول الجنسية، وحتى الكهول منهم يعثرون بسهولة على صبية تايلندية صغيرة في العمر. ففي تايلند يحترم كبار العمر، ويزيد الاحترام إذا امتلأت الجيوب باليورو أو الدولار، أضف لهذا أن التايلنديين بشكل عام مولعون بالعرق الأوروبي الأبيض، ويحاولون تمثله عبر صباغة الشعر بالأشقر ورفع العيون وتصغير الأنف، وكأنهم يمسحون أي أثر للعرق الأصفر. فكلما كنت أكثر بياضاً، كنت أجمل في تايلند، ولهذا تزدهر عمليات التجميل، وهناك نوع من السياحة الطبية مرتبط بها، حيث تزدحم في بانكوك المستشفيات العالمية الأشبه بمراكز تسوق، وأغلبها يقع بالقرب من شارع نانا الشهير بملاهيه الليلية، ليس بعيداً أيضاً عن شارع العرب، بمطاعمه ومحلاته الحلال، وكأن لسان حال المدينة يقول، بعد ارتكاب الحرام عليك بالحلال. هذا ويلقب العرب كما الهنود في تايلند بالضيوف، والضيف في المخيلة هنا حكماً من ذوي البشرة السمراء، لذلك يصيبهم «العربي الأبيض» بالحيرة.
وبين العنصرية المستترة والتسامح الظاهر، هناك، نوع من الشوفينية التايلندية، المرتبطة بشعور التايلنديين بأنهم أبناء أرض لم تعرف الاحتلال في تاريخها، ولهذا سميت تايلند أي بلاد الأحرار. والواقع أن لا حرية سياسية في بلد الأحرار، حيث يربى الشعب على الطاعة، ولا وجود لنظم تعليمية تحرض على السؤال والتفكير، لكن الجميل أنه بعد انقلاب 2014 والاحتجاجات الطلابية الأخيرة، أطلق الناشطون اسماً مرادفاً لتايلند، إنها كالا لاند، أي بلاد قشرة جوز الهند، حيث الداخل معتم والقشرة يستحيل كسرها.
في مدينة الملائكة
بانكوك هي مدينة لا تنام، وتسمى مدينة الملائكة، وواقع الحال أن الملائكة تنام في الليل بينما تستيقظ الشياطين. وليس هذا التناقض الوحيد في سيرة المدينة البرمائية، فالمدينة الملقبة بفينيسيا الشرق، تطفو فوق مياه آسنة، تختلط فيها رائحة المطر بالبول، ما يجعل صورة البطاقات البريدية أجمل بكثير من الواقع. وهي على أي حال مدينة الصور، كما أن تايلند تعتبر الأولى عالمياً في تطبيق أنستغرام، فكل شيء يصور كي يعاش، ولا يكتفي الناس بالابتسام للآخرين في بلد الابتسامة، بل هم يبتسمون لأنفسهم طوال الوقت في لقطات «السيلفي» لتعدل الصور في ما بعد بتقنية الفلتر، تماماً كما تعدل الوجوه بعمليات التجميل. وذاكرة التايلنديين الرقمية ليست طويلة كذاكرة الفيلة التي تقدس، لكنها أيضاً ليست قصيرة كذاكرة الأسماك التي تسبح في السواقي الملوثة، وتؤكل بدافع العوز.
ومع أنه من النادر أن تجد شخصاً بلا هاتف جوال في يده، لكن من النادر أيضاً أن تعثر على كتاب في أيدي التايلنديين، حيث يقرأ التايلنديون بمعدل ثمانية أسطر في السنة، مقابل 24 نسخة كتاب في أوروبا، ورغم أن بانكوك مدينة شابة، ولا يتجاوز عمرها 250 عاماً، لكنها تبدو متعبة وفوضوية، وكأنها شيدت على عجل، ورغم الخضرة الفائضة تبدو المدينة وكأنها مصنوعة من البلاستيك، حيث الزهور البلاستيكية تختلط بالزهور الطبيعية، والأكياس البلاستيكية تحمل كل ما تقع عليه أيدي التايلنديين، بل إن البلاستيك وصل حتى إلى الوجوه المجملة. وتبدو المدينة الآسيوية شاهقة رغم قصر قامة سكانها، وكل ما فيها يناطح السماء من المباني إلى ممرات المشاة المعلقة في الهواء.
كبيرة في تايلند
في الشرق الأقصى البعيد، أبدو أنا القادمة من الشرق الأوسط أشبه بكائن غرائبي، فتقاسيمي لا تترك مجالاً للالتباس بأنني لست آسيوية، وامتلاء جسدي أوصلني بين ليلة وضحاها إلى محلات المقاسات الكبيرة. وأجدني أدندن الأغنية الإنكليزية الشهيرة «كبير في اليابان» بعد أن أعدلها إلى «كبيرة في تايلند» وأنا أمشي تحت المطر من دون أن تتلون دموعي بالسواد، فالماسكارا مقاومة للماء هنا، والمظلة في اليد كي تحمي من الشمس لا من الأمطار. في الطريق يقابلني الكثير من المعابد والأضرحة، ما يوحي بورع المدينة، رغم أن كل ما حرمه الإسلام من عبادة الأصنام وقمار وكحول، مباح هنا. وكل ما يدور حولي يؤكد أنني في منفى، ولست في غربة كما في أوروبا، التي على الرغم من اختلافها، يجمعنا بها حوض البحر المتوسط والتاريخ. أنا هنا في ثقافة غريبة كطفلة متروكة بلا أم ترعاها، فعندما تستعصي على اللسان اللغة الحادة والذائقة الحارة، لا يبقى سوى مذاق الغربة المر. وعليّ أن أعود لساني رويداً رويداً على مذاق ورق الموز عوضاً عن ورق العنب، ونبيذ الأرز بديلاً لنبيذ العنب، وزيت جوز الهند عوضاً عن زيت الزيتون، فأنا في بلاد الأوكيديا ولست في دمشق الياسمين. وبلا أي التفاتة إلى الوراء، عليَ الآن أن أتابع سيري في الشارع الأشبه بمطعم كبير مفتوح، ولا أحد يزعجني، ولو حتى بنظرة إعجاب، وتأخذني قدماي في النهاية إلى تمثال فيل ايرافان، بثلاثة وثلاثين رأساً، وكل رأس بسبعة خراطيم، وفي داخل كل منها سبعة أزهار لوتس. ليست أحجية تلك، بل هي البلاد بغرابتها، وربما كل ما كتبته حتى اللحظة، لا يعدو أن يكون سوى وجه واحد لبلاد بمئة وجه ووجه.