حين يرحل أحد مبدعينا إلى كوكب الموت، يكتب العشرات منا عنه وعن عطائه بإعجاب وحب. لو كتبنا عنهم وعن إبداعهم وهم أحياء أو على فراش المرض، أما كان في وسعنا أن نطيل أعمارهم؟ أليس في الكتابة المحبة ما يزيد في مقاومة المبدع للمرض؟
ترى هل في وسعنا أن نطيل عمر مبدعينا لو كتبنا عنهم وهم أحياء ما نكتبه عنهم بعد رحيلهم؟ وأذكر على سبيل المثال ما حدث مؤخراً للمرحومة نوال السعداوي، حيث غمرناها بالإعجاب والمديح لكتاباتها، وهو ما لم تحظ بالكثير منه خلال حياتها.
أشعر أحياناً بالذنب حين أسمع برحيل مبدع عربي أحببت أعماله الأدبية وقصرت في الكتابة عنه… ومضى… دعونا نمتدحهم دون أن ننتظر خبر موتهم!
مرافقة «وفد المغتربين»
جاءت صديقتي نبيلة من دمشق إلى باريس، وكنا زميلتين في جامعة دمشق. جاءت لزيارة ابنتها المقيمة في باريس، واتصلت بي والتقينا، وأعطتني صوراً شامية قديمة لنا ونحن نرافق «وفد المغتربين» إلى دمشق، ووقع الاختيار علينا (أو من يرغب منا) لأننا كنا ندرس في قسم الأدب الإنكليزي، وبالتالي كان في وسعنا محاورتهم بالإنكليزية. وهكذا كنا نرافقهم إلى أماكن ذكرياتهم، وبينهم من لم يعد يتحدث العربية (بل معظمهم) وأشفقت عليهم، إذ كيف يمكن للمرء أن يعيش طويلاً في بلدان أخرى ويحتاج إلى دليل ليدله على مسقط رأسه؟.. وها أنا اليوم واحدة منهم، فأنا لم أزر مدينتي الأم ومسقط قلبي ورأسي، دمشق، منذ غادرتها قبل أكثر من أربعة عقود، لأسباب لن أخوض فيها.
ولم أعد في المطارات أبرز جواز سفر سورياً، بل لبنانياً أو غير ذلك.. لكنني لم أنس يوماً شوارع دمشق وأزقتها والبيوت التي أقمت فيها، وآخرها في ساحة النجمة والمدارس التي درست فيها. بل لم أنس أسماء معظم معلماتي في مدارسها حين كنت بنتاً صغيرة.
وإذا عدت ذات يوم إلى دمشق، لن أكون حقاً من «وفد المغتربين» لأنه ما زال بوسعي حتى اليوم في دمشق أن ألعب دور الدليل السياحي لا السائح.. فقد غادرت دمشق، لكنها لم تغادر قلبي.
الصداقة بين المرأة والرجل ممكنة
ذكرياتي الشامية لا تتسع لها موسوعة، لذا أعود إلى حوار عصري حول الصداقة بين المرأة والرجل، والتي اختلف قراء «القدس العربي» حولها. من طرفي، أقول: نعم، الصداقة بين الرجل والمرأة ممكنة وقد عشتها وأعيشها.. لا في الغرب وحده بل وفي وطني العربي. أذكر على سبيل المثال الصديق «عاطف.س» زميلي في مجلة «الأسبوع العربي» حين كنت أعمل فيها. اتصلت به ذات ليلة من بيتي في مبنى في «روشة» بيروت، وقلت له: سأغادر بيروت إلى لندن غداً (ولا تقل شيئاً عن سفري لغسان كنفاني) وأسلمك مفتاح البيت. ولن أعود قريباً، أي قبل انتهاء «عقد الإيجار». وهكذا قام عاطف.س بنقل أثاثي إلى بيت في قرية «جنسنايا» يملكه والد صديقتي دنيا.ع، وكم هزني أن زوجة صديقي عاطف قامت بغسيل ستائر البيت وكيها وطيها!.. وذلك قبل حفظها مع بقية أثاثي. وفي وسعي أن أذكر عشرات الأمثال على صداقاتي مع «ذكور» كالراحل حافظ محفوظ رئيس تحرير «مجلة الحصاد»، بعدما عملنا معاً في مجلة «الحوادث» زهاء ربع قرن. وأعتقد أن الصداقة بين الرجل والمرأة ممكنة حين تصفو النوايا.. ويتم التمييز بين الصديق والحبيب. بل إنني أحب الصداقة لأنها طويلة العمر، أما الحب فأرض زلزالية!!
صديقي عبد الحليم حافظ
أتذكر، بحنين، صداقتي مع المبدع عبد الحليم حافظ الذي تعارفته وأنا طالبة في الجامعة الأمريكية حين التقينا على يخت اللبناني رجل الأعمال الراحل جورج أبو عضل، صاحب مجلة «الأسبوع العربي» وكانت الأكثر انتشاراً ومبيعاً، وكنت أعمل فيها وأنا أتابع دراسة الماجستير في الجامعة الأمريكية. وهكذا تعارفت على عبد الحليم. كان إنساناً يشبه صوته، فهو رقيق، مهذب، وتصادقنا. وبعد زواجي صار عبد الحليم يتصل بنا حين يزور بيروت، وكان يحل في «فندق الحمراء» في شارع الحمراء قبل الحرب اللبنانية، وكنا نصطحبه -زوجي وأنا- إلى السينما مثلاً ويضع النظارة السوداء ولا ندخل إلا بعد إطفاء الأنوار وبدء عرض الفيلم، كي لا يلتف المعجبون حوله. وقبل زواجي، حين كنت ما أزال طالبة في الجامعة الأمريكية في بيروت، تواعدنا مرة على اللقاء في مقهى فندقه المفضل (الحمراء) في شارع الحمراء البيروتي (لم يعد موجوداً) ويومها أمرني البروفيسور «سويل» أستاذي، بكتابة دراسة عن مسرح اللامعقول، وكان عليّ الاعتذار عن موعدي مع عبد الحليم. وحاولت عبثاً الاتصال به هاتفياً إلى الفندق للاعتذار. وقرعت باب غرفتي في القسم الداخلي للبنات (بستاني هاوس) وفي الجامعة صديقتان هما لميس.ن ومي.ن وقالتا إنهما ذاهبتان إلى شارع الحمراء البيروتي للتبضع، واقترحتا عليّ مشاركتهما ورجوتهما المرور بفندق الحمراء حيث سيجدان النجم عبد الحليم حافظ في انتظاري، والاعتذار له عني لأن عامل الهاتف يرفض أن يناديه ليرد على مخابرتي الهاتفية للاعتذار (كان ذلك قبل زمن الهاتف المحمول). وذهبتا إلى هناك بسبب إلحاحي، وفوجئت لميس بعبد الحليم حافظ جالساً في المقهى خلف نظارة سوداء.. واعتذرتا عني واحتفى بهما. وحين كنا، زوجي وأنا، نرافق عبد الحليم إلى السينما، كنا ننتظر حتى إطفاء الأضواء قبل الدخول وعلى عينيه نظارة سوداء.
فقد صارت شهرته تفوق ما نتخيله. وكم حزنت في شهر آذار (مارس) عام 1977 حين تصادف أني كنت في القاهرة، وبدلاً من الاتصال به هاتفياً خرجت من الفندق للتسكع على ضفة نهر النيل، وسمعت بائع الصحف ينادي: وفاة عبد الحليم حافظ. حزنت لأنني لم أكتب عنه قبل رحيله.
نعم، ثمة صداقة بين المرأة والرجل حتى في عالمنا العربي. وهذه وجهة نظري، وفي وسعي أن أذكر عشرات الصداقات الجميلة بيني وبين بعض الذكور العرب.. وبينهم من رحل عن عالمنا كزميلي في العمل في مجلة «الحوادث» حافظ محفوظ، الذي عمل فيما بعد رئيساً للتحرير في مجلة «الحصاد» اللندنية، ورئيسة مجلس إدارتها السيدة ابتسام أوجي. وكم حزنت لرحيل ذلك الصديق. أكرر: الصداقة ممكنة بين المرأة والرجل العربي.. وأجمل ما فيها أنها لا تتعرض لزلزال الحب!