كان يوماً باهتاً جداً. كنت أنظر إلى السماء وهي تخلع زرقتها وتلبس ثوباً رمادياً. أما الأشجار فكادت تهوي من شدة الضجر.
كانت الشوارع حزينة فارغة تلتف على بعضها محاولة اكتساب شيْء من الدفء.
كان سكان المدينة كلهم محجورين بفعل فيروس كورونا المستجد.
يومها طلبت مني ابنتي أن أشتري لها ببغاءً صغيراً. أعجبتني الفكرة خاصة أننا نعيش الملل بكافة فصوله. وذلك الصغير قد يأتي بفرح يعيد شيئا من النور إلى حياتنا.
ذهبنا إلى محل الطيور واخترنا ببغاءً أصفر اللون من نوع البادجي. كان يشبه نقطة الضوء. لذلك سميناه «بيكاسو» تيمناً بالرسام الإسباني بابلو بيكاسو، ذلك الطائر لون حياتنا بريشه تماماً، كما لون بيكاسو الرسام أيام الكثيرين بلوحاته الخالدة.
جئنا به إلى البيت. كان صغيراً جداً بدأنا نعلمه كيف يقف على أصابعنا وكيف يقبلنا. دللناه كثيراً. كان يأكل فقط من أيادينا.
كنت أضعه على كتفي وأخرج به من دون القفص وما كان ليتركني أبداً.
كبر بيكاسو قليلاً وكانت تكبر معه فرحتي. أستيقظ في الصباح معه. وأشرب قهوتي على أنغامه. كنت أعتبره فرداً من أفراد عائلتي.
هكذا أصبحت لا أحتمل أن أرى أو أسمع قصة طير أو حيوان أليف يضيع من أصحابه. أتألم لآلام تلك الكائنات الصغيرة وأتعاطف مع أصحابها بشكل كبير.
إلى أن وصلني منذ أيام فيديو لسيدة اسرائيلية تحكي قصة اضطراب كلب ابنها بفعل الصواريخ التي أطلقتها حماس مؤخراً على تل أبيب. ذهلت!
استفزتني لحد أني بكيت بحرقة. تذكرت صور أطفال غزة. دماءهم، وجوههم، وبيوتهم، دُماهم المحروقة الصغيرة!
تذكرت ذلك الأب الذي خسر أربعة من أبنائه دفعة واحدة. تذكرت الطفل الذي حمل نعش أبيه فوق كتفه. وجوه كثيرة بريئة وموجوعة لا يمكن للذاكرة أن تمحيها. عمارات هدمت بالكامل فوق رؤوس سكانها دفعة واحدة.
وتلك السيدة تحكي لنا عن توتر كلب؟!
قالت إن ابنها يسكن في اسرائيل ويعمل مع منظمة الصليب الأحمر.
عندما كانت حماس تطلق الصواريخ على تل أبيب. كان الابن المدلل يبعث برسائل يطمئن والدته أنه وزوجته بخير ويختبئان في مكان آمن. عكس أهالي غزة الذين يعيشون حصاراً منذ أكثر من 14 سنة وليست لديهم ولا حتى زاوية آمنة يحتمون فيها من وحشية الجيش الإسرائيلي، الذي يملك أسلحة متطورة جداً.
لكنها تكمل حديثها بغصة كبيرة وهي تحكي كيف كان الكلب متوتراً ومضطرباً بشكل كامل!
أعدت شريط الفيديو أكثر من مرة وأنا أتساءل ألا تخجل تلك السيدة بأن تظهر على شاشة التلفزيون وتحكي عن توتر كلب وهي تتناسى إبادة أطفال غزة؟ ألا تخجل من دمائهم؟!
بعض البشر إنسانيتهم محصورة في تعاطفهم مع الكلاب ولا تعنيهم معاناة البشر الآخرين.
دماء طفل أو توتر كلب؟
الفساد يتجمّل
تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لرئيس الوزراء البريطاني وهو متأخر عن قطاره. كان يجري بسرعة ليلحق به قبل الإقلاع مثله مثل الكثير من المواطنين الذين يحرصون على الوصول إلى العمل في الوقت المحدد لهم.
أما شعره المعروف ببعثرة محببة، تآلف معها البريطانيون، فقد ازداد مشاغبة خاصة بعد أن امتنع عن قصه طوال فترة الإغلاق.
إن سلوكه هذا يعتبر طبيعياً جداً في بلاد لا يعلو فيها صوت على صوت القانون.
وعلى الرغم من عدم شعبية جونسون ومن السلطات الواسعة التي يتمتع بها كرئيس وزراء بلد من أقوى بلاد العالم، لم نره يوماً يعطل حركة السر في المدينة ولم يقفل يوماً الطرقات كي يمر بموكب من أحدث السيارات المصفحة.
رئيس وزراء بريطانيا يركب دراجته البسيطة كل يوم ليصل إلى محل على ناصية الطريق. يقف في صف طويل حتى يجيء دوره فيشتري تفاحة واحدة.
لم يخطر له أن يوظف عشرات الأشخاص لخدمته. يعرف كيف يحرك رجليه ويديه ويتصرف كإنسان عادي وصل إلى مركزه بفضل الناس. كما يعرف تمام المعرفة بأن منصبه يحتم عليه خدمة المواطنين والسهر على راحتهم.
لذلك يتحرك بطبيعية كأي مواطن انكليزي، رغم مطاردة وسائل الإعلام الكثيرة له.
أما إذا اتجهنا شرقاً إلى عالمنا البائس فسنجد الصورة معاكسة. لن نعثر على جونسون عربي واحد. ولا حتى على «بايبي جونسون» خصوصاً بعد ارتفاع الأسعار وانقطاع معظم السلع المستوردة.
ولن نجد قائداً مبعثر الشعر. فأغلبهم ورغم تقدمهم الشديد بالسن يحاولون زرعه وحقن البوتكس في وجوههم لاخفاء تجاعيد شاهدة على فسادهم ويفعلون هذا من جيوب الشعب.
لا أعرف من هو طبيب تجميل مدير البنك المركزي اللبناني تحديداً. ولا أريد أن أعرف، خاصة بعد ظهوره الأخير.
لكني متأكدة من أنه ليس فقط طبيباً فاشلاً بل هو متواطئ مع الفساد. فهو لم يكتفِ بتقاضي أجره من جيوب المواطنين، لا بل أخافنا بالنتيجة المرعبة. الله يسامحه!
ليتنا نعرف، ما هو العفوي في سلوك معظم قادتنا العرب ووزرائنا ونوابنا؟
كلهم يعيشون في رفاهية ويختبئون من الشعب في قصورهم العالية الأسوار.
وإن خرجوا عطّلوا الكرة الأرضية عن الحركة! يقفلون الشوارع لساعات وساعات. وفي تلك الأثناء يموت المريض وتولد الحامل ويفقد وظيفته العامل المسكين، بسبب تأخره عن العمل ويجوع الطفل العالق على كرسيه في المقعد الخلفي.
كل ذلك التعطيل لا لشيء إلا لكثرة «محبة» الناس بالمسؤول!
إن تلك المراكب المارة وطواقم الحراسة المشددة تكلف الملايين، فيما الشعب جائع يركض خلف رغيف خبز.
وما زال هناك من يدبك في محطة البنزين في لبناننا ليقنعنا بأننا شعب لا يهزم. لا يجوع. لا يستسلم. لكننا فعلاً هزمنا.
ثرنا ومات أبطال كثيرون. واحترق البلد ودمرت قاعدته وشوه قلبه وما زالت الطبقة الحاكمة هي هي. لكل من قادتنا الأعزاء كرسي ملتصق عليه.
يبقى السؤال ما هو نوع الغراء الفاخر، الذي لا تتلفه السنين، وقد بلانا برزمة من البلداء والأشرار؟!