أبوه لواء شرطة، أراد سمير أن يكون مثله، فالتحق بكلية الشرطة، ولم ينجح طبعا، تركها وذهب إلى دراسة الزراعة، في الإسكندرية. وهناك قابل وحيد سيف وعادل نصيف، وكونوا فرقة “إخوان غانم”، سافر نصيف وجاء جورج سيدهم، ثم تركهم وحيد وجاء الضيف أحمد. اكتشفهم مخرج المنوعات محمد سالم، ومنحهم اسم برنامجه “أضواء المسرح”. بدايات صعبة، أدوار صغيرة، وديون كثيرة، وصبر ومثابرة و”معافرة”. جاءت الهزيمة في 1967، وألقت بظلال الكآبة على كل شيء، فكانت فكرة فوازير رمضان، ودخل الثلاثي بيوت المصريين، عن طريق التلفزيون. بعد ثلاث سنوات رحل الضيف أحمد، حاول سمير إقناع عادل إمام أن يحلّ محله، كان إمام احتياطي الضيف في حياته، إذا انشغل الضيف، أتوا به، إلا أنه لم يوافق هذه المرّة، كأن قد بدأ رحلة صعوده مع فرقة الفنانين المتحدين. فكر سمير في فتاة، وحاول مع صفاء أبو السعود، ولم ينجح. مات شقيق سمير غانم ومدير أعماله، وبدأت الخلافات، على خفيف، مع جورج سيدهم، لم يصمدا، انفصلا، وسبق سمير بخطواتٍ، وصار نجما.
قدّم سمير كل شيء، سينما.. مسرح.. تلفزيون.. مَثّل، وغنّى، ورقص. لعب الأدوار الثانوية، قبل النجومية وبعدها، والبطولات المشتركة، والدور الأول. كانت لسمير قدرات مرعبة على استخراج الضحك من كل شيء. كان سمير أول من انتزع الضحك من الأغنية. ليس المقصود هنا أن يؤدّي أغنياتٍ مضحكة، فهذا سهل، وموجود، كان يحوّل أغنيات عادية إلى مادّة للضحك، وأحيانا من دون أن يضطر لتغيير الكلمات، كان يستخدم قدراته الصوتية الاستثنائية، وأداءه الفطري، في شحن الأغنية بالإيحاءات البعيدة كل البعد عن كلماتها وأنغامها.. ضحك من الغناء، ضحك من البكاء، ضحك من الشر، من الملابس، الإكسسوارات، الماكياج. حين يقلّد، لا يقلّد، لا يستعرض، إنما يلتقط الجانب الكاريكاتوري من الضحية، ويضعه أمام فوهة الكوميديا، ويضغط. حتى وهو طالب في كلية الشرطة، لم يكن يشغله في طوابير الصباح إلا الجانب الكوميدي في أداء زملائه. وقع من الضحك مرّة، وهو يراقب زميلا له، كاد أن يُحبس، لولا أنه حكى الموقف “بطريقته”، في أثناء التحقيق معه، فضحك قائده، فأنقذه الضحك كما ورّطه. يسمع سمير صوت الضحك في كل شيء حوله، في ملابسه، قمصانه، بنطلوناته، نظّاراته. التفت، مصادفةً، إلى شوكة وسكين، من الخشب، ديكور، في بيت صديق، استعارهما، رأى فيهما ضحكا محتملا، سمعه، وظّفهما، بعدها بكثير، في مشهد “الشوربة” في مسرحية “المتزوجون” وصرخ الجمهور من الضحك. علاقة سمير غانم بالأشياء تنحصر في قدرته على تحويلها إلى ضحك.
لا يستهدف سمير الفكرة، الموضوع، القيمة. لا يستهدف السياسة، حتى في رواياته السياسية الواضحة، مثل “جحا يحكم المدينة” و “فارس بني خيبان”، وغيرهما. لا يعنيه إذا كان “العمل” جادّا، ساذجا، عميقا، خفيفا، “مقاولات”، ليكن كما يريدُه مؤلفه ومنتجه ومخرجه. أما هو فلا يريد سوى الضحك، كان سمير حادّا، (وجادّا!)، وصارما، ومتطرّفا في استهدافه الضحك، وما أراده حصّله بنسبة مائة وواحد بالمائة.. “النص” عند سمير غانم “هامش على دفتر الارتجال”، يقرأ الحدّوتة، ويفهم المطلوب، وينطلق، وحده. ولذلك لم تستوعبه السينما، على الرغم من نجاحاته فيها، ولم تقدر عليه الدراما، رغم التألق في “ميزو”، و”كابتن جودة”. وحده المسرح الذي استوعب أداءه “الفاجر” وارتجاله الجامح، وإبداعه المنفلت. كل يوم نص جديد، فكرة جديدة، إفيهات جديدة، ضحك جديد، ورواية واحدة!
“موهبة سمير” هي البطل، لا هو، موهبته هي حجم الدور، لا عدد المَشَاهد، موهبته هي أثره المنحوت في ذاكرة المشاهد، ولو في دور ثانوي، في “خلّي بالك من زوزو”. رقصة، خزعبلية، في “أميرة حبي أنا”. دقيقة واحدة، “في عالم عيال عيال”. يتجاوز سمير، في هذه الأدوار، منطق الفن والكوميديا، إلى شيء آخر لا اسم له ولا تصنيف سوى سمير غانم، فيعيش. حب صاف .. وضحك صاف .. ومزاج صاف ورائق مثل نسمات الصبح .. هذه هي “التركة”، ألف رحمة ونور.