هناك أحداث تمر في تاريخ البشرية تفقدك الثقة في هذا الجنس الغريب، هذا الكائن البدائي الذي بعدُ يطغى توحشه حتى على أهم غرائزه: غريزة البقاء وحفظ النوع. فمن مذابح المغول الغابرة، إلى مذابح اليابان في شرق آسيا، إلى مذابح الأرمن، إلى مذابح قبيلة التوتسي في راوندا، إلى عمليات الاعتداء على الأراضي والتطهير العرقي ضد أمريكا الجنوبية، إلى المحارق النازية في ألمانيا، إلى الكثير والكثير مما وقع بعد هذه المجازر وقبلها كذلك، إلا أن مذبحة وإبادات وتطهير عرقي مثل تلك التي تحدث في فلسطين كلها لم تمر على البشرية من قبل، وذلك لعدة أسباب: هذه عملية إبادة مقننة مستمرة لما يقترب من مئة سنة الآن، هذه عملية تطهير عرقي تتم في زمن الأمم المتحدة ورغماً عن كل قراراتها واعتراضاتها وتقاريرها المناهضة، هذه عملية قتل منظمة تتم على مرأى ومسمع العالم أجمع، صوتاً وصورة، في زمن بات فيه نقل الحدث لا يكلف أكثر من ضغطة زر. ما يحدث على الأراضي الفلسطينية، يحدث كل يوم في مجالس بيوتنا، نراه على تلفوناتنا وشاشات تلفازاتنا. فما بالنا، نحن البشر، لا نتفاعل كما يجب مع هذا الكم الهائل من العنف والقبح والتقتيل والتهجير والاعتداء، الذي يصلنا صوتاً وصورة وبشكل مباشر؟ هل لأنه يصل من خلف شاشات زجاجية فبتنا نعتقده فيلماً غير حقيقي، أم بسبب كمية تدفقه واستمراره الذي جعلنا نعتاد عنفه وننام قريري العين، وهذا العنف يضرب أطفالاً يختبئون خلف ظهور آبائهم، ليستلقوا بأجسادهم الخامدة الصغيرة قتلى عند سيقان الآباء المكلومين؟
لمَن بعدُ لا يستحي من تكرار أن الفلسطينيين قد باعوا أراضيهم، أنقل لهم فحوى حوار أجراه المحامي الكويتي الدكتور فواز الخطيب على «كلوب هاوس» قبل أيام ينوه فيه إلى حقيقة مثبتة، وهي أن 6% من الأراضي الفلسطينية هي فقط المباعة مقابل 94% غير مباع، وذلك طبقاً للسجل العقاري الرسمي في فلسطين والمشار إليه في كتب مثل Ten Myths About Israel وBeyonChutzpah، «فهل هذا» يتساءل الدكتور، «يعطي الحق لملاك الأراضي أن يحتلوا الشوارع والمرافق والجمعيات؟» يضرب الدكتور مثلاً بالكويت أو أي دولة في العالم، إذا ما باع بعض سكانها بيوتاً أو عقارات للأجانب، هل هذا يبرر للأجانب احتلال هذه الدول؟ على ذلك، هل للكويتيين الحق في احتلال بريطانيا أو لبنان، على سبيل المثال غير المعقول، نظراً لامتلاكهم عقارات كثيرة فيهما؟ لا أدل على النظرية الداروينية للتطور وحقيقة أن الكائنات كلها لها جد واحد من تشابهنا غير المبرر مع الببغاوات، نكرر الجمل بلا تمحيص ولا فهم ولا إدراك للمعنى والتبعات. إن رقم 6% هو الموثق بيعاً وشراء، فإذا كانت هذه النسبة تبرر الاحتلال والاستيطان، فلأهل الخليج دول ودول تنتظر جيوشهم ليحتلوها بحكم صكوك الملكية المتناثرة لهم حول العالم، غريبون نحن البشر الببغاويين.
يشير الدكتور فواز إلى أن الحجة الثانية التي يخدر بها البعض ضميره تبريراً لاعتداءات الكيان الصهيوني هي حجة اعتراف الأمم المتحدة بدولة إسرائيل، فيعقب معلقاً أن هذا الاعتراف «هو من أكبر عمليات التزوير في تاريخ البشرية، لأنه تغيير للحقيقة مبني على حجج توهم الناس بوجود أمر هو في حقيقته تدليس أدى إلى اغتصاب». يكمل الدكتور بأن الأمم المتحدة نفسها، وبعد هذا الاعتراف المقيت، أصدرت «دعوات وقرارات صريحة لوقف الاستعمار». لم تستطع الأمم المتحدة بحد ذاتها أن تواكب اعترافها الاعتدائي، ذلك أن تماهي وتمادي الكيان الصهيوني في اعتداءاته وعنفه أنطق حتى من اعترف به وأخرجه قسراً عن دائرة السكوت والقبول. الأمم المتحدة، التي اعترفت ذات يوم، لم تستطع أن تصمت، فما بالك «أنت» صامت أو، الألعن من ذلك، «مبرر ومجيز» لهذه الوحشية المعتوهة؟
يؤكد الدكتور فواز أن إسرائيل تشكل «عدواناً يستمر باعتبار نفسه خارج الإطار القانوني»، والدليل «قرارات مجلس الأمن» التي تخالفها إسرائيل وتتجاهلها كل يوم. فمن قرار 487 الصادر عن الأمم المتحدة والمعتمد بالإجماع، كما يوضح الدكتور فواز، والذي يطالب إسرائيل بوضع منشآتها النووية تحت ضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو القرار الذي ترفض إسرائيل تنفيذه، إلى قرار 573 الذي يشير إلى الإدانة الشديدة للعدوان الإسرائيلي خصوصاً على تونس، الذي كلف الأخيرة خسائر عظيمة بشرية ومادية، إلى قرار 611 الذي أشار لكل القرارات السابقة مؤكداً مخالفة إسرائيل للقواعد الدولية، ثم جملة من القرارات اللاحقة التي تشير إلى ضرورة وقف الاستيطان، وكل هذه القرارات والمزيد منها موجود على موقع مجلس الأمن، فماذا بقي بعد كل ذلك؟ هل بات العالم يعامل إسرائيل على أنها المتنمر المتوحش المرعب الذي يخافه الجميع ولا يستطيع صد بجاحته أحد؟
حين يقول إسرائيلي «إذا لم أسرقه أنا، فغيري سيسرقه»، وذلك على مرأى ومسمع العالم كله، رداً على تنويه فلسطينية له أنه يسرق بيتها، وذلك إبان الأحداث الأخيرة في حي الشيخ الجراح، فلا تقوم قائمة الدنيا ولا يتكالب العالم أجمع ببشره «المتحضر المتمدن» المحكوم بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمنضوي تحت «منظمة الأمم المتحدة» التي يفترض أنها تقيم العدل وتحمي الحقوق والإنسانية، لنصرة فلسطين والفلسطينيين، بعد مئة سنة من العذاب والاحتلال والموت المنظم والتطهير العرقي والإبادات اليومية على حدود مصطنعة قبيحة بين مدن فلسطينية كانت مفتوحة لتنقل أهلها بينها، إذا كان ذلك يحدث ونحن نعتبره جزءاً من نشرة الأخبار، فعلى البشرية كلها السلام.