قرأت منذ سنوات (2016) كتاب «النثر الفني في القرن الرابع» لمؤلفه الباحث المصري محمد زكي عبد السلام مبارك (توفي 1952) والكتاب هذا في الأصل؛ بحث كتبه المؤلف بالفرنسية، وقدمه إلى جامعة باريس، ونوقش أمام الجمهور في 25 إبريل/ نيسان 1931، ونال به المؤلف وعنه إجازة الدكتوراه بدرجة مشرّف جداً، وفي يدي الطبعة الأولى منه الصادرة عن مطبعة دار الكتب المصرية في القاهرة عام 1352ه الموافق لسنة 1934م، وقد استوقفني رأي غريب فاه به زكي مبارك، في مسألة النثر الفني لدى العرب، ويؤيده في ذلك طه حسين (1973) فإذ ينكر أستاذه المسيو مرسيه، وجود نثر فني لدى العرب، لأن العرب أيام الجاهلية، كانوا يعيشون حياة أولية، والحياة الأولية؛ تعني لدى مرسيه، حياة بسيطة ساذجة؛ لذا فالحياة الأولية لا توجب النثر الفني، لأنه لغة العقل، وقد تسمح هذه الحياة بالشعر، لأنه لغة العاطفة والخيال، ولو كان ثمة نثر فني، لدوّن هذا النثر وحفظ، ولجاءنا شيء منه، لكن مرسيه وهو يطلق رأيه الجافي هذا، ما وضع في حسبانه الأمية الفاشية في عرب الجاهلية، ولاسيما في الريف والبراري، مع قلة من يعرف القراءة والكتابة في المدن والحواضر، وأهل المَدَر، كما إنه يرى وجود الخطب في الزمن الجاهلي.
إن الجهل بالكتابة، جعل الحافظة هي المعوّل عليها في تناقل الآثار النثرية، وما قد يعتوّر الحافظة والذاكرة من نسيان وخلط، واضعين في حسباننا صعوبة حفظ الكلام المنثور، في حين احتفظت الصدور بالكثير من الشعر الجاهلي، لأن إيقاع الوزن والقافية مما يسهلان الحفظ.
يفتتح زكي مبارك فصله هذا (النثر الجاهلي) متسائلاً: هل كان للعرب نثر فني في عصور الجاهلية؟ وهل كانوا يفصحون عن أغراضهم بغير الشعر والأمثال؟ فيجيب بثقة لا مزيد عليها، نائماً ملء جفونه عن شواردها، تاركاً إياناً ساهرين جرّاها، ولسنا معه في خصام بل نقاش. «لقد اتفق مؤرخو اللغة العربية وآدابها، كما اتفق مؤرخو الإسلام على أن العرب لم يكن لهم وجود أدبي ولا سياسي قبل عصر النبوة، وأن الإسلام هو الذي أحياهم بعد موت ونبههم بعد خمول». إن إطلاق الأحكام باطمئنان يحسد زكي مبارك عليه، دليل فجاجة إن لم أقل بلادة، فالقلق العلمي، وتقليب الأمور على أوجهها يظل ملازما الإنسان الباحث عن حقائق الحياة والأشياء، والحقيقة مثل إبرة في خضم كومة قش، وإذا لم يكن للعرب وجود سياسي قبل انفلاق نور النبوة، وليس في ذلك ما يضير، فسيأتي زمنه، وقد أتى، فليس من المعقول أن لا يكون لهم وجود أدبي، إذن أين نضع الشعر والخطب والرسائل على قلتها؟
إن عدم إطلاق تسميات للصور البلاغية والمحَسّنات البديعية في نثرهم، لا يعني أن العرب لم ينتجوا نثرا فنياً، فالصور البلاغية أمر، وتسميتها أمر آخر، ولو صح هذا القول إذن لنفينا الشعر العربي قبل النبوة، لأن الشعراء وقتذاك ما كانوا يعرفون فن التقطيع الشعري وبحور الشعر، فهذه حصلت في زمن متأخر نسبياً؛ حصلت أيام الخليل بن أحمد الفراهيدي، أو الفرهودي، وعلى يديه (100-170ه) الذي ابتكر واكتشف عروض الشعر العربي، كما أنهم لم يقعّدوا قواعد لغتهم، إلا بعد مرور زمن، بعد أن فشا الغلط والخطأ واللحن في الألسنة بسبب الأعاجم. لقد كانت سليقتهم اللغوية سليمة ورائعة، ولم يعرف عنهم الخطأ اللغوي، أو الغلط النحوي، إن خفاء الجاذبية الأرضية لا يعني أنها غير موجودة، وإن عدم مقدرتنا على تفسير ظواهر الكون، المد والجزر، وانتقال الصوت عبر الهواء لا يعني نفيها.
لقد أعاد إلى الأذهان ما دونته آنفا، قراءة أخرى لفصل خصصه الشاعر والباحث العراقي المتمكن؛ معروف بن عبد الغني الرصافي (ت 1945) لمناقشة ما ورد في كتاب «النثر الفني في القرن الرابع» لزكي مبارك، وهذا الفصل فضلاً عن فصول أُخَر، نشرها الرصافي في كتابه «رسائل التعليقات» طبع في مطبعة المعارف في بغداد سنة 1944 طبعة أولى ولم يطبع ثانية، وهو نقد وتحليل آراء جديدة لم يسبق إليها، كما ذكر على صدر الغلاف- وهو من خزانة كتب المرحوم أبي.
الرصافي في رسالته هذه، أورد آراء جديرة بالمدارسة، وتومئ إلى قراءات مضنية في بطون التراث، مع أن الشعراء – غالباً- ليس من وَكَدِهم هذا وديدنهم، فهم – على الأحوط – بياعو كلام، وأفحم زكي مبارك، على الرغم من إمكاناته، قائلا:» هذه هي الحقيقة التي لا ريب فيها، وقد رَوَت الرواة لنا شيئاً من كلامهم المنثور ولو قليلاً، لكن هذا الفرنسي ومن لف لفه إذا ذكرنا لهم شيئا من كلامهم المنثور قالوا هذا من صنع الرواة، ولو أنهم تكلموا في إثبات وضعه عن دليل، لا عن ظن لهان الخَطْب، لكنهم عندما ينفون وينكرون يرمون الكلام على عواهنه رميا، ويصرون على ما يدعون عنادا وبغيا، فسبحان من ابتلاهم باتباع الهوى حتى في المسائل العلمية.
والظاهر أيضاً من كلام المسيو الذي ذكرناه آنفا أنه يريد منا لإثبات وجود النثر الفني عند الجاهليين أن نأتيه بكتاب مؤلَف قد كتب في مسألة من المسائل العلمية أو الاجتماعية، أو غير ذلك من الأمور على حد الكتب المكتوبة، من آثار الهند أو الفرس أو الروم، فإذا أتيناه بكتاب من هذا النوع فعندئذ يؤمن بوجود النثر الفني في الجاهلية، ومن الغريب أنه آمن بوجود الخطب من دون أن نأتيه بكتاب من هذا النوع».
هذا الرأي المجافي للعلم ووقائع الحياة الثقافية العربية، جعل زكي مبارك يقع في مطب علمي آخر خطير، أوقعته فيه اندفاعة الشباب، ذبا عن العرب ولغتهم وتراثهم، هذه الاندفاعة الشبابية جعلته يقرر أن القرآن نثر جاهلي. تنظر صفحة 39 وما بعدها. أما لماذا؟ فلأنه بلغته وتصوراته وتقاليده وتعابيره، يعطينا صورة للنثر الجاهلي. هو يرى أننا لا يمكن أن نعده أثرا من آثار العهد الإسلامي، كيف يمكن ذلك والإسلام لما يظهر بعد، والإسلام ما كان موجوداً قبل نزول القرآن من لدن حكيم خبير، فلا مفر إذن – كما يقول الباحث زكي مبارك – من أن القرآن الكريم يعطي صورة جلية عن النثر الفني لعهد الجاهلية، لأنه نزل لهداية أولئك الجاهليين، والله لا يخاطبهم إلا بما يفهمون، وكيف يعقل أن يحدث النبي قومه بما ينبو عن أذواقهم وأفهامهم؟
أرى أن في رأي زكي مبارك هذا الكثير من الخطل والفجاجة، وقد دفعه إلى هذا – كما قلت آنفا- اندفاع الشباب في الرد على هؤلاء المستشرقين المغرضين، إن ذلك يجب أن لا يدفعه إلى توصلات خاطئة، واحتطاب في ليل دامس بهيم، فالقرآن ليس أثرا جاهليا، بل هو أثر إسلامي، جاء إيذانا بإشراقة عهد جديد على أمة العرب، بعد أن نفضوا عن إهابهم سنوات النزاع والصراع، فالقرآن والإسلام متزامنان؛ زامن بعضهما بعضاً، وجاء القرآن بلغة بليغة، أثرت في نفوس سامعيه، ما يدل على وجود نثر فني، لا بل يؤكد وجوده، لم يصل إلينا بسبب الأمية الفاشية بين العرب، فضلا عن أن النبي الكريم، منع كتابة حديثه الشريف خشية الاختلاط بالقرآن، فسيكون من باب أولى أن لا يكتب النثر الجاهلي فطواه الزمن.
كيف يؤثر الأسلوب القرآني في قوم لم يظهر فيهم نثر فني، ولا يعرفون أساليبه؟ لكنه ليس بأي حال من الأحوال شاهدا من شواهد النثر الجاهلي، بل هو شاهد إسلامي على عصر النبوة، يتأثرون ببلاغته وسموه البياني الإعجازي.