أخط هذه السطور بمناسبة «عيد العشاق» الذي تصادف قبل أيام (إلسان فالنتان).
لقد مرت على الإنسانية أوبئة كثيرة وجدوا لها اللقاح وانطوت صفحتها، وأذكر على سبيل المثال مرض السل والجدري وسواهما كثير.
أما (وباء) الحب فيبحث البعض عن لقاح له منذ أقدم العصور وفشلوا.. لأنهم ببساطة لا يريدون الشفاء حقاً!!
مع وباء الحب لا ينفع أي قناع كالقناع ضد مرض «الكورونا» الذي نرتديه هذه الأيام، فهو لا ينتقل في الهواء بل تنتقل فيروساته بالنظرات! وبالتالي، فالقناع الذي يُرغم على ارتدائه الناس للحماية من نشر كورونا (كوفيد 19) هو قناع يبرز العيون والنظرات من أهم مصادر العدوى بوباء الحب، حيث تكفي نظرة من عينين لإصابة الآخر «بوباء» الحب.
الشعر العربي القديم ووباء الحب
يبدو أننا نتعايش مع «وباء الحب» منذ أقدم العصور، بل ونكتب القصائد عنه، وهو ما لم يفعله أحد اليوم حتى في كتابة قصيدة واحدة عن وباء كورونا.. متغزلاً بذلك الوباء!
أما وباء الحب الذي لم نجد له لقاحاً، فليس ثمة من يبحث له عن لقاح كما يبدو، بل ونجد أوجاعه مغفورة. إذ يكتب مثلاً أبو محمد الفتح بن خاقان:
أيها العاشق المعذب صبراً
فخطايا الهوى مغفورة
ويقول جميل بن معمر:
«ألا قاتل الله الهوى كيف قادني… كما قيد مغلول اليدين أسير»
ولكنه لا يفتش لنفسه عن لقاح ضد ذلك ويستمتع بأسره.
الترحاب بوباء الحب بدل اللقاح!
منذُ أزمنة بعيدة ونحن نرحب بوباء الحب ونجد الشواهد على ذلك في الشعر العربي القديم.
يكتب «ديك الجن»:
أخا الرأي والتدبير لا تركب الهوى
فإن الهوى يرديك من حيث لا تدري.
يكتب العباس بن الأحنف:
تحمل عظيم الذنب ممن تحبه
وإن كنت مظلوماً فقل أنا ظالم
فإنك إلا تغفر الذنب في الهوى
يفارقك من تهوى وأنفك راغم!
وباختصار، ديوان الشعر العربي زاخر بالترحاب بوباء الحب، فالحب هو الوباء الوحيد الذي يفتك بالعقل ويؤجج القلب، وبدلاً من أن يكتب الأصحاء عنه يكتب المرضى بلوعة وافتتان بداء الحب، ولعله الداء الوحيد الذي لا يريد الشفاء منه مريضه!
الرائعة فدوى طوقان وآثار خطاه!
في الشعر المعاصر نجد ترحاب الشاعرات والشعراء بهذا الوباء «وباء الحب» ولا يفتش أحد عن لقاح ضده.
تكتب الرائعة الشاعرة فدوى طوقان:
هناك على شاطئ كم حواك
وكم ضم من ذكريات هواك
تململ قلبي فوق الرمال
يعانق ذراتها بابتهال
ويلثم فيها رسوم خطاك!
فالحب كما نرى وباء يدفع ببعضنا إلى لثم خطى المحبوب!
بين مضار التدخين ووباء الحب
الشعراء المعاصرون أيضاً يكتبون عن وباء الحب على نحو مختلف عما نكتبه عن وباء كورونا، ربما لأن أخطر ما في وباء الحب أن المريض لا يريد الشفاء. وكما في الشعر العربي القديم وصف لأعراض (وباء الحب) دون ذكر كلمة عن التطعيم ضده! نقرأ في قصيدة للشاعر نزار قباني على لسان امرأة:
واصل تدخينك يغريني
رجل في لحظة تدخين
هي نقطة ضعفي كامرأة
فاستثمر ضعفي وجنوني
أشعل واحدة من أخرى
أشعلها من جمر عيوني
ورمادك ضعه على كفي
نيرانك ليست تؤذيني
فأنا كامرأة يكفيني
أن ألقي نفسي في مقعد
ساعات في هذا المعبد
أتأمل في الوجه المجهد
وأعد أعد عروق اليد
فعروق يديك تسليني
وخيوط الشيب هنا وهنا
تنهي أعصابي تنهيني
دخن لا أروع من رجل
يفنى في الركن ويفنيني!
فيا للحب من وباء لا يفتش عن لقاح، بل يستمتع بما قد يؤذيه كالنيكوتين.. إنه مرض كورونا العشاق ومجانين مرض الحب.
ولن يجد البشر له لقاحاً، لأن الطبيعة البشرية منذ أقدم العصور حتى اليوم ترحب بهذا الوباء!
مريم مشتاوي ضد «وباء» حب الامتلاك!
لفتني ما كتبته الروائية اللبنانية مريم مشتاوي. تذكر مريم أنها قبل زمن كورونا والإغلاق ذهبت وصديقة للعشاء في مطعم لندني، وحين دخلت إلى الحمام لغسل يديها قبل الطعام لمحت على المغسلة خاتماً من الماس والذهب الأبيض، وتقول بصدق إنها احتارت هل تسلمه لمدير المطعم أم تحتفظ به. وحسناً فعلتْ حين لم تحتفظ به لأنها ليست مصابة بوباء حب الامتلاك، وحرصت على عودة الخاتم الماسي الثمين إلى صاحبته. وهذا موقف نبيل منها يدل على أن بعض الناس ليسوا مصابين بوباء حب الامتلاك بأي ثمن.
وفي موقف مشابه كنتُ مع إحدى صديقاتي نتناول العشاء في مطعم في شارع الشانزيليزيه الباريسي قبل مرحلة الإغلاق التام بسبب وباء كورونا. وجدتْ صديقتي على طرف المغسلة خاتماً من الزمرد نسيته سيدة غسلت يديها. قالت لي: إذا لم آخذه أنا ستأخذه من تأتي من بعدي. غلبها وباء «حب التملك» على الأمانة. قلت لها دون أن أكذب: لم يعد بوسعك ذلك. توجد كاميرا تلتقط شريطاً لكل من يدخل إلى الحمام وما يدور فيه.. ولم يعد بوسعك التمتع بوباء حب التملك! فاتركي الخاتم في مكانه!
كأن الكاميرا اللقاح الأول لوباء حب امتلاك ما ليس من حقنا.
لقد وجدَ عصرنا اللقاح ضد الكورونا ولكنه لم يجد بعد لقاحاً ضد الحب، ولا أعتقد أنه سيجده، ولا لقاحاً ضد «حب الامتلاك». ويظل الحب وباء لا شفاء منه في العصور كلها على ما يبدو.. ربما لأننا نريد في أعماقنا أن نمرض به… من يرفض المرض بلحظة حب؟