saudialyoom
"تابع آخر الأخبار السعودية والعربية على موقع السعودية اليوم، المصدر الأمثل للمعلومات الدقيقة والموثوقة. انضم إلينا الآن!"

مسلسل «الهاربة من الماضي»: مفارقة الوصاية… والتخلي عن ذاكرة الجذور

52

 

 رامي أبو شهاب

يشير المفكر عبد الوهاب المسيري إلى ملحوظة شديدة الأهمية في ما يتعلق بتحليله لفكرة الجماعات الوظيفية، حيث يرى أن هذه الجماعات تتسم بمعاداتها لفكرة الذوبان في المجتمعات الأخرى، حيث تستشعر في عزلتها أو غربتها شيئاً من الطهارة لتتحقق مقولة الطاهرين مقابل المدنسين، وحين يشذّ فرد عن سياقها، فإن هذا يعني خرقاً لمنظومة عميقة من تشكيل الوعي الجمعي، كما يعدّ خطراً يتهدد صفة الثبوتية الهوياتية.

الذات: تنكر للنموذج

استحالت هذه الفكرة إلى نموذج كلاسيكي من المعالجة على المستوى الدرامي، أو الإبداعي عامة، ولكنها مع ذلك تبقى اختزالاً لمأزق الإنسان في مواجهة تشكيلات تعدّ أقوى منه، فثمة ما يمكن أن ننعته بصراع الإنسان الأزلي مع قيم التطرف والوصاية، عبر محاولة البحث عن الذات في حدودها الحرة بلا طبقات عميقة من مخزون الذاكرة، في تحديد كيف يمكن أن يعيش الفرد وفقاً لما يحبه أو يرضاه. إنها إشكالية النموذج الفردي في مواجهة التقاليد الجمعية، حيث لا يمكن معالجة هذا بدون الانزياح لتوصيف شخصية تستشعر تغايرها عن مفهوم القطيع، وغالباً ما يخضع الاختيار لشخصية مأزومة، وحين تكون امرأة تبدو المعضلة أكثر تعقيداً، غير أن المعالجة لا يمكن اقتطاعها من سياقيها الفكري والسياسي، كما نعاين في مسلسل «الهاربة من الماضي» أو Unorthodox بحلقاته المحدودة (أربعة أجزاء)، فثمة الكثير من الأبعاد في الكشف عن جذور فكرة التطرف تبعاً لهيمنة الماضي على الحاضر، أو المستقبل.
المسلسل الذي أنتج سنة 2020 مقتبس عن كتاب للكاتبة الأمريكية الألمانية ديبورا فيلدمان بعنوان:
Unorthodox: The Scandalous Rejection of My Hasidic Roots  وترجمته «غير تقليدي: الرفض الفاضح لجذوري الحسيدية». نال المسلسل تقديرات عالية من النقاد، كما حصل على جوائز عدة، وكما يبدو فإن العنوان يشي بإشهارية واضحة تحمل طابعاً من التّحدي في نموذج درامي أقرب إلى المذكرات، فالكاتبة تعلن رفضها واختلافها أو ثورتها المعلنة على الصيغة المهيمنة من أفكار الطائفة (الحسيدية) التي تنتمي إلى أصولية دينية، فكلمة (حسيد) تعني (التقي)، وعلى الرغم من أن نشوء هذه الطائفة، جاء بوصفه ثورة على سلطة الحاخام، إلا إنها مع الزمن باتت أكثر تزمتاً لتمارس الدور عينه. من أبرز من قدم لأفكار هذه الطائفة المفكر اليهودي مارتن بوبر، الذي بدت أفكاره أقرب إلى الرومانسية، ومناهضة للتنوير، عبر رفضه التحولات للانخراط في نموذج معيشي منفتح على العالم.

حبكة المسلسل تنهض على قصة امرأة متزوجة تدعى «إستي» في التاسعة عشرة من العمر، تضطر للهرب إلى ألمانيا بعد اكتشاف أنها حامل من أجل تحقيق حلمها بالغناء والعزف، هذه الفتاة ذات الأصول المجرية تعيش في حي يهودي في مدينة نيويورك، وبالتحديد في حي «وليامزبيرغ» تحت إطار مفهوم «الغيتو» الذي يبدو قائماً بشدة لدى الجماعة المنغلقة على ذاتها. يبرز المسلسل بتقنية إخراجية متقنة كيف يمكن أن يكون المجتمع معزولاً عن محيطه، أو مغرقاً بتعاليم وأنماط معيشية مغايرة عن الوسط الحواضري الذي يكمن فيه، فالحي مُسيّج لا يمكن الخروج منه أيام السبت، في حين أن سلطة الحاخام محكمة على كل ما يتعلق بممارسات الحياة، بما في ذلك مظاهر الحداثة، ومنها استخدام الهاتف الذكي، والملبس والطعام، وهذا يشمل ممارسة الحب بين الأزواج، حيث يجب مراعاة تعاليم الطائفة، كما ينظر إلى هذا الفعل بطابعه الوظيفي الذي يتحدد بإنجاب أكبر عدد من الأطفال لتعويض من ماتوا بالإبادات، وهنا تبرز «إستي» التي تصبح زوجة ضمن زواج مدبر، حيث كانت تعيش قبل زواجها مع خالتها وجدتها، وهي أيضاً نتاج زواج مضطرب بين أب مدمن على الكحول، وأم تتخلى عن كل شيء لتعيش حياتها وفق معتقداتها العلمانية المتحررة في ألمانيا. كل ما سبق يدفع إلى تشكل وعي «إستي» بفعل التشظي على مستوى العائلة، وسطوة التعاليم المتشددة التي تقمع حرية الفرد، ولا تتيح له التعبير عن موقفه تجاه ما يريد، فكل شيء يخضع لمشيئة الحاخام.
تتمرد «إستي» في الحلقة الأولى على هذه القيم، وتهرب من نيويورك لتتوجه إلى ألمانيا، حيث أمها، ولكنها تتخلى عن اللجوء إليها حين تجدها منشغلة بحياتها. هناك تتعرف على مجموعة من الموسيقيين: الشباب والشابات اليهود، الذين ينتمون إلى أعراق مختلفة من افريقيا وأوروبا، ومنهم يهود عرب، ولكن ما يوحد بينهم إنهم يعيشون ضمن سياق النموذج العلماني، حيث يتخففون من ماضيهم القائم على المحكية الدينية الكامنة تاريخياً، في حين تدرك «إستي» لأول مرة الحب بوصفها خياراً عند تعرفها على شاب يقدم لها المساعدة هناك.
لعل هروب الزوجة الحامل، يستدعي اجتماع كبار الطائفة لوضع خطة لإعادة الفتاة، فيرسل زوجها الملتزم بتعاليم الطائفة، والمغلق على ذاته الوظيفية، في حين يصحبه ابن عمه، الذي سبق له أن اختبر السفر لألمانيا، كما خبر الحياة خارج أسوار مجتمعه، ولكن هذه الشخصية تبدو مسكونة بشبكة دلالية، حيث تعكس شخصية ابن العم نموذج النفاق والتناقض في الشخصية المتدينة، فهو يمارس القمار، والزنى، وله علاقة مشبوهة، ولكنه في نهاية اليوم يرتدي طقوسه ليمارس صلاته، في حين يلعب دروا محورياً في الكشف عن مخبأ «إستي» بهدف إجبارها إلى العودة إلى أمريكا.

مفارقة الوعي التاريخي

ينطوي المسلسل على نقد طيف من النماذج الراسخة في لاوعي العقلية اليهودية، فمركزية اختيار «إستي» للعودة إلى ألمانيا تتسع للكثير من المدلولات العميقة، إذ نلمس بوضوح الاستهجان من قبل الطائفة لهذه العودة صوب مكان يضطرب بوعي الذاكرة النازية، هذا ما نستخلصه من حوارات ابن العم والزوج في ألمانيا، فالعداء للمكان واسترجاع ذكرى الإبادة والهولوكوست واضح، والأهم أن كل مكان هناك يبدو محملاً بذكرى الجثث وحكايات مؤلمة تدعو للكراهية.
ولعل اختيار «إستي» للانخراط في عملية تطبيع مع التاريخ، من خلال تجاوز الذاكرة ما يمكن أن نعده قراءة شديدة في نقد الراديكالية التاريخية التي تؤطّر التفكير الديني المتطرف لدى بعض الجماعات، فهي تقف حائرة بين حلمها بالعزف أو الغناء، وما يمكث في وعيها من معتقدات زرعت في عقلها، فعند لقائها مع الطبيبة الألمانية بخصوص حملها، تسألها الطبيبة ما إذا كانت ترغب في التخلص من الطفل في بداية تشكله، حيث تجيز القوانين الألمانية ذلك، غير أن الفتاة ترد بأن وظيفة المرأة في مجتمعها إنجاب أكبر عدد من الأطفال للتعويض عن الذين أبيدوا، وهكذا تتحول «إستي» إلى نموذج من نماذج الصراع بين تطلعها للتخلص من متراكمات تلك الأفكار، ونزعتها للتحرر والولوج إلى عالم طبيعي مُعلمن، فهي لا تنفك تشاهد نماذج العلاقات المفتوحة القائمة على الحب والاختيار والحرية في المجتمع.
إن تكوين ألمانيا الجديد يتجاوز كوابيس الهولوكوست، حيث ينبغي تناسي الماضي، والتطلع للمستقبل، وهنا يتقن صانعو المسلسل تشكيل مجتمع متحرر من قيم الأيديولوجية الدينية المتطرفة، إذ نرى أن أحد أساتذة المعهد يقوم بمساعدة «إستي» للدخول إلى المعهد، غير أن ما يميز هذا الأستاذ تلفظه بلغة عربية تعود إلى أحد بلدان الشام، ما يعني أن ثمة تجاوزاً واضحاً للمعضلة التي تنهض على أفعال العداء للآخر، ويشير أيضاً إلى نبذ إسقاطات الحساسية الدينية أو السياسية أو العرقية من حسابات هذا المجتمع الجديد.
تبدو رغبة المسلسل واضحة في فكفكة عقد التفكير الديني المنعزل والانطوائي على ذاته، فيكثر من تجسيد المبالغات في ممارسات العبادات، وتقاليد هذه الطائفة، كما يتجسد من خلال الاجتماع على الطعام أو في حفلات الزواج، وغير ذلك، فهي أقرب إلى نماذج طقسية قارة لدى هذه الفئة، كما نعاين الديكور والأثاث، وتصميم المنازل في نزعتها البسيطة، فهي لا تخضع لأي نزعة حداثة واضحة. هذه المجتمعات تنظر إلى الحداثة بوصفها بدعة، أو محرمات، حتى على مستوى الملابس للرجال، في حين أن النساء ملابسهن محتشمة، كما يظهرن دائماً بوصفهن حوامل، أو لديهن مجموعة كبيرة من الأطفال، فممارسة الحب بين الأزواج لا ينتج بفعل الحب، إنما رغبة في تمكين التكاثر استجابة للتعاليم للدينية. أما في ما يتعلق بالآخر، فهو غالباً ما ينعت بأنه شخص غير يهودي، مما يتصل بمتوالية عميقة قوامها فكرة الأغيار التي تميز المعتقد اليهودي.
المسلسل يعتمد على ثلاث لغات: الإنكليزية والألمانية كما اليديشية، ولعلها أول مرة يتم تقديم مسلسل باللغة اليديشية المحدودة، بهدف خلق إطار متناغم مع الواقع لتصوير العزلة الثقافية، كما نرى إحالة إلى تصورات هذه الجماعة الدينية تجاه ما يسمي بإسرائيل، ففي مشهد محاولة الرجلين حجز غرفة في أحد الفنادق الألمانية يرحب بهم عامل الاستقبال بوصفهم إسرائيليين، ولكن ابن العم سرعان ما يصيح مستهجنا.. «أوه الصهاينة»، ما يعني أننا إزاء تصورات سياسية تتسم بهذه الطائفة، من حيث رفض مركزية العودة لفلسطين، في انتظار الخلاص حسب الأفكار الحسيدية.
في المشهد الأخير يلتقي الزوج بزوجته بعد أن تؤدي فقرتها في اختبار القبول الموسيقي، فيصعق من أدائها الغنائي الجميل، فضلاً عن تأثره بنواتج حواره مع والدة إستي التي توضح له أن ابنتها تعرضت للكثير من الظلم، حين حرمت من الاختيار، وهنا نرى كيف يحاول الزوج استعادة زوجته، ولكننا نبقى غير متيقنين من هذه الرغبة، فهل جاءت بداعي الحب؟ أم رغبة باستعادة الطفل من براثن النموذج العلماني، أو المجتمع المادي في ألمانيا؟ غير أنه في سبيل التأكيد على تغيره واختلافه يقوم بقص جديلته أو سوالفه، التي تعدّ إحدى علامات التدين، ولكن هذا لا يثني «إستي» عن رفضها العودة، أو بمعنى أدق العودة للغيتو، فتفضل البقاء في ألمانيا في محاولة للتصالح مع ماضي شعبها، وكل الرواسب التي نزعت الإنسان من إدراك ذاته، وفردتيه في هذه الحياة، وهنا نسترجع مشهد نزولها إلى البحيرة عند وصولها لألمانيا، حيث تتحرر من شعرها المستعار الذي كان يغطي شعرها المحلوق لتستشعر الماء، ومعنى الحرية في مشهد متقن، ومتوتر للغاية.
من مقولات المسلسل الدعوة لعدم الارتهان إلى التاريخ المتوتر، أو بقاء الإنسان أسيراً لسدنة تفسير النصوص في عمل احتمل أداء بسيطاً وهادئاً ومتوازناً، ولا سيما عبر أداء موفق للممثلة التي أدت دور «إستي» حيث مزجت بين القوة والضعف، وبين السذاجة والحيلة، وبين التطلع للمستقبل، ونبذ الماضي، لقد بدت في بنيتها الضئيلة وشعرها المحلوق، واضطرابها الشعوري، تجسيداً لعذابات الإنسان لإدراك حياته بمعزل عن الإكراهات كافة التي يفرضها الآخر، ففعل الوصاية نتيجة تراكمية للتاريخ والذاكرة، والنصوص كلها تحول دون تحرير الوعي الذاتي، حيث تبقى معضلة الإنسان في قدرته على المواءمة بين ذاته المتفردة بخصائصها المغايرة، والوعي الجمعي السائد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.