saudialyoom
"تابع آخر الأخبار السعودية والعربية على موقع السعودية اليوم، المصدر الأمثل للمعلومات الدقيقة والموثوقة. انضم إلينا الآن!"

دَنْدنة أوروبية لرسالة من تحت الماء

46

سهيل كيوان

قبل الهواتف المحمولة، والفضائيات الكثيرة والإنترنت، وآلاف القنوات التي ممكن مشاهدتها للترفيه، واستقاء المعلومات، كان الراديو.
كانت ذروة متعة الإصغاء إلى سهرات عيد شم النّسيم المصري، يستمع العالم العربي كله إلى البث المباشر لحفل عبد الحليم حافظ، أو حفل فريد الأطرش، وغيرهما من الفنانين.
في حفلة شم النسيم عام 1973 غنّى عبد الحليم حافظ «يا مالكاً قلبي» و«حاول تفتكرني» و«رسالة من تحت الماء» ثلاث جرعات طربية أصيلة في ليلة واحدة.
في تقديمه لـ«رسالة من تحت الماء» من شعر نزار قباني وألحان الموسيقار محمد الموجي، قال حليم مخاطباً الجمهور: «دي غنوة عايزة سمع» وكنّا نُسجّل الحفل كي نسمعه متى شئنا فيما بعد.
أجرينا مقارنات ما هي الأغنية الأفضل من بين الثلاث، وكانت الحيرة بين «رسالة من تحت الماء» و«حاول تفتكرني»ودار نقاش حول كلمات الثالثة هل هي «يا مالكاً قلبي»أم «يا مالكَ القلب»؟ لم يكن أيامها غوغل ليحسم لنا الأمر.
في تلك الفترة، كنا ثلاثة أصدقاء نعمل في مَحْددة في خليج حيفا، صاحبها يهودي اسمه مردخاي.
في اليوم التالي أحضرنا معنا آلة التسجيل إلى العمل، في فرصة الإفطار توقف الضجيج، وشغّلنا رسالة من تحت الماء، وبدأت مقدمتها السيمفونية الرائعة، توقف مردخاي الكهل إلى جانب المسجل وأصغى جيِّداً، ثم تساءل: لمن هذا اللحن؟ وبفخر قلنا، إنه لمحمد الموجي، ويغنيه عبد الحليم! أنصت جيّداً ثم قال: لا… هذا اللحن ليس عربيًا!
أصررنا على أنه لمحمد الموجي، إلا أن مردخاي، وكي يُقنعنا، راح يدندن اللحن كأنه يعرفه منذ زمن بعيد، لا أذكر يومها اسم الملحن أو الموسيقى التي ادّعاها، واكتفينا برفض ادعائه بقوة، واعتبرنا الأمر غيرةً ومناكفة، في ذلك الوقت لم نكن قد سمعنا بشيء اسمه «البحث الموضوعي عن الحقيقة» فقد كانت معظم نقاشاتنا معه مؤسَّسة على المناكفات.
دافعنا عن محمد الموجي بحماسة كبيرة، وتمسّك هو برأيه، بأن اللحن أوروبيٌ.
بعد سنوات قليلة، سافرت إلى برلين الشرقية، وفي ظهيرة يوم ما، خلال سفري في حافلة داخلية، كان المذياع شغالاً، وفجأة انطلقت موسيقى مقدمة «رسالة من تحت الماء» المقدمة فقط، بدون أي كلمات، لم أفهم ما قالته المذيعة حول اللحن، ولكنني تذكرت ادعاء مردخاي الروماني الأصل، وازدادت حيرتي، هل أصَدِّقه؟ ولكن لعله برنامج عن الموسيقى العربية؟ أو مختارات موسيقية عالمية، وخصوصاً أن ألمانيا الشرقية، كانت بلدًا أمميًا في ذلك الوقت.
حتى يومنا هذا لم أستطع البت النهائي والجزم في هذه القضية، ولكن كلّما سمعتها، أتذكر كيف دَندن مردخاي في لحن المقدمة وكأنه يعرفه.
بحثت في السرقات الموسيقية وهي كثيرة، لكن لم أعثر على أي سرقة لمحمد الموجي، بالعكس وجدت أنه ربح دعوى ضد ملحن أوروبي سرق منه مقدمة قارئة الفنجان، المهندس الزراعي الذي لحق قلبه وذهب إلى الموسيقى، فأبدع روائع مثل «للصبر حدود» و«اسال روحك» و«الرضا والنور» لأم كلثوم، و«أنا قلبي ليك ميّال» و«يَمّا القمر ع الباب» وغيرهما لفايزة أحمد، و«شباكنا ستايره حرير» و«غاب القمر يابن عمِّي» وغيرهما لشادية، و«عيون القلب» و«أما براوة» وغيرهما لنجاة الصغيرة، وعشرات الأغاني للعندليب الأسمر أولاها «صافيني مرة» وآخرها «قارئة الفنجان».
معروفة المقارنات لعدد من أغاني موسيقار الأجيال عبد الوهاب، مع أغان أوروبية مثل «يا مسافر وحدك» وهي لفنانة يونانية سبقته في لحنها ببضع سنوات، و«النهر الخالد» من تشايكوفسكي، ومقدمة «أحب عيشة الحرية» من السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، باعتراف عبد الوهاب بأنه كان من واجبه أن يشير إلى النقل، وعن هذا يقول سليم سحاب، مايسترو الفرقة القومية للموسيقى العربية في دار الأوبرا المصرية، في مجلة شؤون عربية، العدد 174 في العام 2018: «الشائع أن بيتهوفن نفسه أخذ هذه الموسيقى من رقصة إيطالية قديمة تدعى تارانتيلا، تعود إلى القرن السادس عشر، كذلك هناك اعتراف من تشايكوفسكي بأنه أخذ من أوبرا كارمن للفرنسي جورج بيزيه». وفي مقابلة له، يقول الفنان المصري حلمي بكر: «إن عبد الوهاب نقل مقاطع وطوّرها، وهذا لا يعتبر سرقة».
هناك ألحان لفريد الأطرش، منها مقدمة «حكاية غرامي» وأصلها موسيقى أستورياس، والفرق أن أستورياس للأسباني إيساك ألبينز تُعزف على الجيتار، بينما قدّمها فريد الأطرش على العود بصورة مدهشة.
كذلك هناك ألحان شهيرة للرحابنة مصدرها غربي واضح.
ليس العرب فقط يأخذون عن غيرهم، فالأجانب أيضاً يأخذون عن العرب، وخصوصاً الإسرائيليين، فهناك عشرات الأغاني العربية التي تؤخذ ألحانها كما هي، وفقط تستبدل كلماتها إلى العبرية، ويحدث أن ما تعتقد أصله عربياً يتبين أنه تركي أو مجيري أو يوناني أو روسي، وغيره.
قبل أشهر قليلة، سمعتُ في قاعة رياضية، أغنية لمطرب راب أمريكي معاصر يدعى (جي زي) ما شد انتباهي هو لحن أعرفه بالكاد يُسمع في خلفية الموسيقى، وهو لحن أغنية «خسارة خسارة فراقك يا جارة» لعبد الحليم حافظ. بحثت في غوغل، فوجدت أن وريث بليغ حمدي تقدّم بشكوى ضد هذا الفنان الأمريكي، ولكنه لم ينجح، إذ تبين أن منتج الأغنية الأمريكية دفع لشركة (إي إم أي أرابيا) في العام2011 مئة ألف دولار مقابل حقوق النشر.
أذكر في السبعينيات أنني حضرت حفلاً للفنان اليوناني المعروف بـ(آري سان) في قاعة سينما آرمون في الهدار في حيفا، كان يعزف مقدمة لحن أغنية أم كلثوم ويصرخ بالعربية «إنت عومري».
تبين أن محمد عبد الوهاب كان قد رفع ضده قضية، منذ سنوات السبعينيات وربحها.
عندما أسمع «رسالة من تحت الماء» يطفو السؤال الذي لم أجد له جواباً. التكنولوجيا تعِدُ بأن لا تبقي أسرارًا، وفي المستقبل القريب سينتشر تطبيقٌ جديدٌ، تُدَندِن لهاتفك بلحن ما، فيظهر لك اللحن أو الأغنية في نسختها الأصلية.
في انتظار هذا الإختراع، علّه يحلُّ لي لغز دندنة مردخاي لمقدِّمة هذه الأغنية الرائعة، ومهما كانت النتيجة، فهي لن تمسَّ بشيء من عظمة الموجي، لكنه الفضول، وكي أعرف هل كان الرّجل الذي أرجِّحُ أنه صار في العالم الآخر مُحِقًا في ادعائه، أم لا!

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.