saudialyoom
"تابع آخر الأخبار السعودية والعربية على موقع السعودية اليوم، المصدر الأمثل للمعلومات الدقيقة والموثوقة. انضم إلينا الآن!"

سفينة النُقاد

50

بروين حبيب

انتعش النقد في أواخر القرن العشرين وأوائل هذا القرن، تكاثرت الملتقيات الأدبية، والمؤتمرات، والندوات والجوائز التي فتحت بابا واسعا لسجالات أدبية طاحنة، لكن منذ بدء هذه الجائحة، دخلنا مرحلة ركود غريبة، أشبه بالنوم الشتوي لبعض الكائنات، حتى قيل إن مرحلة ما قبل الركود وصفت كالتالي: «في غضون سنوات قليلة، انتقلنا من فترة المجاعة إلى عصر الوفرة، ثم إلى إنتاج تضخمي في مناطق معينة، لكن هذا الزخم تعرض لهجمات متعددة من العالم الافتراضي».
ثمة شيء آخر لا نفهمه، فقد زاد عدد قراء القصص والروايات وحتى الشعر، لكن في المقابل نجد نقدا هزيلا يصاحب هذا الإقبال على الكتاب، وربما هو ليس نقدا، بقدر ما هو إبداء لآراء انطباعية انتشرت بسبب مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الإلكترونية الكثيرة، التي لا تهتم بدسامة المادة المنشورة بقدر ما تهتم بعدد متابعيها ومتصفحيها.
ونحن هنا أمام رأيين، أولهما يقول إن النقد هو المنشط الأول والوحيد، سواء كان أكاديميا أو انطباعيا لحركة الأدب، وما نشهده اليوم من إقبال على القراءة هو ثمرة تلك الفترة المذكورة أعلاه، فيما رأي آخر يذهب إلى انتعاش التسويق أونلاين، وأن بعض المجهودات الفردية للتعريف بالكتاب على مواقع التواصل الاجتماعي، كانت مفيدة لسوق الكتاب أكثر من النقد الخارج من أسوار الجامعات، وهذا يعني أننا لسنا بحاجة إلى النقد بشكله الدسم القديم، الذي يتولاه في الغالب أساتذة ونقاد متجهمون وإعلاميون يحملون سواطيرهم، ولا يتركون النص وكاتبه إلا وقد أصبح لحما مفروما. هذا الزحف الذي شكله العالم الافتراضي في اكتساح اليومي المعيشي للفرد في العالم، بدأ يفرز قرارات لم نسمع بها في حينها، ولكنها تصب في تقليص مكانة العلوم الإنسانية والاجتماعية من الجامعات، وبالتالي تقليص دور النقد كونه العصب الحقيقي لهذه العلوم المبنية على التأمل والتحليل. في 2017 على سبيل المثال وبناء على إشعار رسمي من وزير التعليم الياباني هاكوبون شيمومورا تمت الدعوة لحذف هذه العلوم من المجال الأكاديمي، لأنها لا تخدم بشكل كاف الابتكار والقدرة التنافسية، ست وعشرون جامعة من أصل ست وثمانين أعلنت عن رغبتها في التخلص من تلك الأقسام أو تقليصها لأقصى حد. وحسب هذه الرسالة الوزارية اليابانية فإن «احتياجات المجتمع الضرورية» غير مرتبطة بهذه العلوم، وإنما بتخصصات أخرى. فيما علا صوت مشابه في سويسرا، تبناه أحد السياسيين، يطالب فيه بخفض عدد طلاب العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى النصف، والاستفادة من توجيه النصف الآخر إلى تدريبات مهنية تفيد المجتمع أكثر، وفيما تنبعث رائحة السياسة من كل هذه الطروحات الصادمة، يستمر البعض بالتخفي خلف الغطاء العلمي والبحثي عالي الجودة، الذي يمكن تحقيقه عبر مضاعفة فرض مزيد من الرقابة والتوجيه إلى المعاهد التي ترفع من مستوى النقد بكل أنواعه.
هل يبدو هذا طبيعيا خاصة إن عرفنا أنه حدث في بلدان متطورة مثل فرنسا؟

بالنسبة لنا، نحن الذين لم يبلغ عندنا النقد مستوى إقلاق راحة السياسيين، وظل متخفيا في عالم الأدب الافتراضي، فإن الأمر يبدو غريبا، خاصة أن بعض نظريات النقد لا تزال حبيسة أسوار الجامعة، وحدود المجلات العلمية المحكمة. فما نوع النقد المقصود؟ وما العلاقة بين نقد يتناول النصوص، وآخر يخرج من كنفها فيلامس الحياة في أعماقها؟ في تغريدة لافتة كتب الناقد السينمائي خليل حنون تحت عنوان «هوليوود تقضي على النقد»، «اضطرت مجلة فاراييتي العريقة إلى الاعتذار من الممثلة كاري موليغان، لأن واحدا من كبار نقادها دينيس هارفي، ذكر في مقال نقده لفيلمها الجديد بأنها غير مناسبة للدور الذي أدته، فهي ليست ممثلة إغراء. وبدأ ناشطو حركة «مي تو» بالمناداة بضرورة وجود تنوع بين النقاد، لأن معظمهم ذكور، وقالوا إن النقاد الذكور يحكمون على شكل الممثلة لا على أدائها. هذا الاضطرار إلى الاعتذار يعتبر سابقة وقد يجعل نقاد السينما في هوليوود حتى المرموقين منهم أسرى مزاج العاملين في هوليوود». يصدمنا هذا الخبر أيما صدمة، فما كُتِب عن موليغان ليس مؤذيا، مثل عبارات الذم والقدح التي تعج بها مواقع التواصل الاجتماعي، بل يبدو تقيما عاديا قد يصدر عن ناقد أو ناقدة، أو أي متابع للسينما كيفما كان جنسه، ومن حقه أن يبدي رأيه، فلماذا بلغ الأمر إلى حد الاعتذار؟
ثمة إشارة قوية إلى أن النقد لم يعد يُرد عليه بالنقد، إنه يذهب فعلا إلى مستقبل غامض، تعمل جهات ضيقة الأفق على مراقبته والعمل على إقصائه. فإن كان الناقد الأدبي أو اللساني الباحث في الظاهرة اللغوية، أو الناقد السياسي، يستخف بالنقد السينمائي، ويعتبر هذه الحادثة لا معنى لها، فهو مخطئ، لأن ما حدث ينذر الجميع بأن المنظومة الإبداعية التي تنتج فكريا، بدأت توجه إليها سهام حرب تمهيدا لإقصائها. هل تذكرون الطبيب النجم باسم يوسف وبرنامجه الساخر؟ بالطبع تذكرونه، ولعله لا يزال نجما يحبه ويقلده كثيرون، لكن بمستوى نقدي أقل حفاظا على «باب رزقهم» أو «سلامة رؤوسهم»… فكل نقد مزعج كما قال وينستون تشرشل ذات يوم، لكنه ضروري لأنه ينبهنا إلى خلل ما. فهل يبحث النقد عن الخلل في الشيء دائما؟ أم عن تحقيق الكمال؟ يحمل السؤال الجواب في طياته، وقديما قيل إن «النقد كان تمهيدا ضروريا للتعليم الليبرالي»، ففتح الأبواب أمام الأسئلة، وهي بدورها دون غيرها فتحت أبواب العلوم كلها نحو المعرفة، وحققت لنا كل هذا النعيم الذي نعيش فيه.
في مقال سابق أشرت إلى المأزق الذي وضعت فيه البشرية بحلول جائحة كورونا، ما جعل أصوات الخائفين تعلو وتزيد مستغيثة بالمفكرين، ومدوني التجارب الإنسانية من أدباء وفلاسفة وعلماء اجتماع، قبل الأطباء والمختصين في مجال البحث العلمي. لماذا إذن بالمقابل هناك من انزعج هذه النداءات المستغيثة؟ من الذي حاصره النقد ويريد تغطية عجزه؟ يقول الناقد ميشال أونفراي: «الإنترنت لعنة مهنة القلم» مشيرا إلى أن المخيلة دوما كانت أقوى من الواقع، فمن يشتري بيتا إنما يشتري «الوصف اللغوي» الذي يعتمده السمسار لإقناعه، تماما مثل «دون كيخوته دي لامنشا» الذي قرأ الكثير من قصص الفروسية فصدق أنها مطابقة للواقع. ما يعانيه النقد اليوم، مرتبط مباشرة بالظاهرة الإلكترونية، حيث أصبح الجميع مثل «دون كيخوته» مصدقا أنه فارس الساحة، يحكم ويهاجم، ويعلن الحروب من خلف «الكيبورد»، يمارس النقد السياسي، كما يتقمص دور الخبير الاقتصادي بثقة تثير الغرابة، وكل تدوينة يتركها على صفحته في فيسبوك تثير جمهورا ما، وتلغي أساتذة مختصين بتقرير صغير يرفع لفيسبوك نفسه، الذي يتجاوب معه بشكل مثير للعجب، فيحظر الأستاذ ويمنع من التعليق لعدة أيام، قد تبلغ شهرا كاملا..
لا شيء يبدو منطقيا على الشبكة العنكبوتية التي يتزعمها اليوم أنصاف المتعلمين، أو «جحافل الحمقى» كما سماهم أومبيرتو أيكو، إنها كارثة حقيقية، وهي شبيهة بموجة مجنونة للصحافة الصفراء، التي اكتسحت الفضاء الإلكتروني، ومنحت القوة لسادة الثرثرة والنميمة، مع تواطؤ كبير ضد كل ما يمت إلى العقل بصلة. فما كان مستحيلا في الصحافة المكتوبة أو على الراديو أو التلفزيون، أصبح ممكنا على مواقع التواصل الاجتماعي، في غياب كامل للتسلسل الهرمي المهني، فلا رئيس تحرير ولا رئيس قسم، ولا من مشرف على ما ينشر، ويبث في فيديوهات تافهة. يتحقق للكائن الفيسبوكي أو التويتري أو الإنستغرامي، أو غيره كل ما يرغبه بكبسة زر، بإمكانه أن يصبح شاعرا، وأديبا، وصحافيا ونجما.
ما حققه الإعلامي النجم في ظرف عشرين سنة من الاجتهاد، حققه نجم السوشيال ميديا بفيديو واحد، ما كان يتطلب تكوينا جامعيا طويل المدى، يمكن تحقيقه بتخطي المجتمع العلمي برمته، بحيث انتقلنا من «المثقف المُرخص» إلى كائن يسوق لنفسه، كما يمكنه التسويق لأي شيء على الشبكات الاجتماعية، مثل تحريك الشارع، تكفير مفكر، ضرب بضاعة، التشكيك بفعالية اللقاح، أو أي دواء، العمل على انهيار أسهم شركات، إلخ. بالمختصر ما دامت مهنة الناقد ليست بخير، فإن مصير البشر على هذه الأرض غامض، بل مشكوك في نجاته، وكأننا مقبلون على عهد نوح جديد، لكن مع حملة لتكسير السفينة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.