الظهور العابر لعزت العلايلي في فيلمي «رسالة من امرأة مجهولة» و»بين القصرين»، لم يكن سوى استعداد للوثوب عالياً، فالشاب الذي تخرج في المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1960 وعمل مُعداً للبرامج التلفزيونية لفترة قصيرة، كان يعي حجم موهبته، ويعرف أنه على مقربة من حُلمة الكبير في أن يُصبح ممثلاً له خصوصيته، ولعل البداية نفسها كانت تُنبئ بقدوم نجم بمواصفات خاصة، فهو الثوري المُثقف المُحرض على مقاومة الاستعمار في فيلم «بين القصرين» وصاحب الصوت الأعلى في الهتاف لسعد زغلول، ذلك الصوت الذي قاد الجماهير نحو قبلة الاستقلال.
بوابة دخول لعالم النجومية
لم يخيب العلايلي ظن المخرج حسن الإمام، الذي رشحه للدور الصغير ليكون بوابة الدخول لعالم النجومية والتألق في غضون سنوات قليلة، فما لبث أن أطل علينا في أدوار أخرى أكثر فاعلية وتأثيراً، فكان دورة في فيلم «الأرض» الذي جسد من خلاله شخصية عبد الهادي، الذراع الأيمن لمحمد أبو سويلم، علامة فارقة في حياته الفنية ومشواره الإبداعي الطويل، فهو الفتى القوي المُهاب، والفلاح حارس الأرض والعرض والمُتيم بوصيفة «نجوى إبراهيم» جميلة جميلات القرية. كان هذا الدور مقياساً حقيقياً للأداء الواقعي المتميز، فلا تكلف ولا مبالغة، بل انصهار كامل في الشخصية، وترسيخ لمبادئ نبيلة، عبر صورة مضيئة للفلاح المصري الشهم المتمرد على الظلم، لم يغير عزت العلايلي من منظورة القيمي للأدوار، فقد دقق كثيراً في الشكل والمضمون، واستطاع أن يقدم أنماطاً مختلفة لها السحر الأدائي والمنطق الدلالي، لعلاقة الممثل بأدواره والشخصيات التي يجسدها، ففي فيلم «السقا مات» للمخرج صلاح أبوسيف لم يقف عند حد معين في التعبير، ولكنه نفذ إلى جوهر الشخصية بكل أبعادها الإنسانية، فقدم مرثية للفقر والعوز، والعمر الذي تسرب من بين أصابع البطل، من دون أن يشعر، فلم يظفر بشيء مما يستحقه وهو ساقي الحي والمتفاني في خدمة ساكنيه من البسطاء الطيبين، الراضين بالقليل واليسير.
وفي فيلم «التوت والنبوت» عزف الفنان الراحل على أوتار الملحمة الشعبية التي صاغها نجيب محفوظ في رواية «الحرافيش»، مُستعرضاً آيات الذل والهوان في مواجهة جبروت فتوات الحارة وحُكامها المزعومين، وكالعادة كانت الصورة الإيجابية للمقاومة مُتجسدة في شخصيته، كونه جديراً بدور الفتوة العادل حامي حمى الحارة ونصير الضعفاء والمهزومين، وفي السياق نفسه كان دوره المُعتبر في رواية يحيى الطاهر عبد الله «الطوق والإسورة» إضافة مهمة للقيمة الموضوعية للرواية المُترجمة بالصوت والصورة على الشاشة الكبيرة، والناقلة لثقافة الجنوب المصري الخاصة في التعامل مع قضايا الشرف، حيث الحزم والشدة، ورباطة الجأش، أمام المُعضلات القوية من علامات الشخصية الصعيدية وسماتها الأساسية.
ممثل من العيار الثقيل
ولعل الدور التاريخي لعزت العلايلي في فيلم «القادسية» كان دالاً عليه كممثل من العيار الثقيل ومُثقفاً نموذجياً في اختياره لأدواره وشخصياته الدرامية، التي لا ينتهي تأثيرها بانتهاء عرض الفيلم أو المسلسل، وعلى ذكر الاختيار وتناغماً مع المعنى جاء الدور المهم في فيلم «الاختيار» للمخرج يوسف شاهين ليتوج الحقيقة ويضع الفنان الكبير في مقدمة الصفوف كمنافس قوي لنجوم الصف الأول، فرغم أن الفرصة في هذا المقام كانت عزيزة نوعاً ما، لكن الخيط لم يفلت من يد العلايلي وظل قابضاً عليه بقوة وحساسية، فلم يحسب حساباً كبيراً لموقعة على الأفيش، ولكنه عمد إلى التركيز على نوعية ما يقدمه، وجعل من التأثير مقياساً صحيحاً فنجح في تحقيق المعادلة الصعبة، وراهن على الفارق والمُختلف فكان له النصيب الأوفر من التميز.
لعب عزت العلايلي الدور الثاني أمام نور الشريف في فيلمي «أهل القمة» و»بئر الخيانة»، وفي الحالتين قدم شخصية الضابط باختلاف التخصصات والمواصفات، ففي الفيلم الأول كان ضابطاً في إدارة مكافحة التهريب، إبان فترة الانفتاح الاقتصادي في سبعينيات القرن الماضي، وفي الفيلم الثاني ضرب مثالاً حياً في فنية الأداء المُتقن والمدروس، حيث تقمص شخصية ضابط المخابرات، الذي يتعقب الجاسوس الذي باع نفسه للشيطان مقابل حفنة من الدولارات، وانتهت حياته نهاية مأساوية بالانتحار لتنطبق عليه الجُملة الختامية للفيلم الواردة على لسان الضابط «عاش خائن ومات كافر».
ومن زاوية إنسانية بحته وبشكل غير تقليدي لتوظيف الفكرة الدرامية جاء دوره المختلف أيضاً في الفيلم الاجتماعي البوليسي، «خائفة من شيء ما» مُجسداً لدور اللص النبيل الذي ينقذ طالبة جامعية من براثن الذئب البشري أبو بكر عزت، الرجل المتخصص في اغتصاب الفتيات بعد تخديرهن، كانت الشخصية التي قدمها عزت العلايلي في هذا الفيلم مثيرة للجدل، وكاشفة لجوانب استثنائية في طبيعة اللص الذي احترف السرقة مُضطراً وتاب وأناب على يد الفتاة التي أنقذها.
ومع الفنان عادل إمام ويسرا كان حضور العلايلي في فيلم «الإنس والجن» قوياً للغاية، ومُلهماً بضعف التأثير السلبي للجن في الإنسان في حال اعتصامه بالقرآن الكريم، وتحصنه بآيات الذكر الحكيم كقوة مضادة نافذة المفعول، وليس أدل على قدرة الفنان الراحل من تفوقه الواضح في دور عبد الموجود، ذلك الفلاح البسيط ضحية العُمدة المُستبد عمر الشريف في فيلم «المواطن مصري».
تنوعت الأدوار المهمة للفنان بغير تكرار، ولا ابتذال ولا سقوط في لُجة الإسفاف، بغية الانتشار والوجود على حساب القيمة، كما فعل الكثيرون من زملائه ورفاق دربه، غاية ما فعله الفنان الإنسان أنه بحث عن البدائل التي تحفظ له هيبته ووقاره، فركز في الأعمال التلفزيونية فكان دوره الذي نال عنه جائزة أحسن ممثل في الفيلم التلفزيوني «الطريق إلى إيلات» للمخرجة إنعام محمد علي، واستمر في العطاء فأنجز الكثير، «عبد الله النديم والحسن البصري وبوابة الحلواني وقال البحر وطارق من السماء والباقي من الزمن ساعة، ومضى الوقت والعُمر»، ولم يتبق من الرجل غير سيرة طيبة وأصداء فنه الراقي الدال عليه والمُسجل باسمه.