في مرحلة الطفولة، نتخيل ملامح مستقبلنا، بما في ذلك المهنة، والدخل المرغوب فيهما. والمثير للدهشة أن هناك العديد ممن سارت حياتهم على الدرب نفسه، الذي تم تخيله منذ الطفولة. وأمام تلك الأمثلة الحيَّة لترسيم حدود المستقبل يقف الإنسان متعجبَّا لكونه محظوظا أو متعوسا؛ لأن أحلام طفولته تحققت بحلوها ومرها. لكن الحظ بمعناه الدارج لا وجود له على أرض الواقع؛ فالمسؤول عن تحقيق الأمنيات هو العقل ذاته؛ لأن إصرار المرء على تحقيق أهدافه يمكنه من رسم طريق واضح المعالم، ليسلكه من أجل تحقيق مآربه، فالعقل هو مركز الحظ.
وكلما نظر الإنسان لعقله وحاول فهم تعقيداته، اندهش وشعر بأنه لغز كبير كامن في متاهة من الصعب تحديد بدايتها أو نهايتها. فالعقل الواعي ليس هو المخزن الوحيد للمعلومات والأفكار، أو الجهة المطلقة لإصدر الأوامر التي تتحكم في تصرفات وتحركات الإنسان، وبالتالي تساعده على تحقيق أهدافه؛ لأن هذا العقل المهيب، لديه عقل خاص به، وهذا العقل هو ما يسمى بالعقل الباطن (أو اللاوعي) Subconscious. وأول من صاغ مصطلح «العقل الباطن» كان عالم النفس الفرنسي بيير جانيه (1859-1947) في رسالة الدكتوراه الخاصة به، التي ذكر فيها أنه تحت طبقات وظائف التفكير النقدي ـ التي تصدر من العقل الواعي ـ يوجد وعي قوي أطلق عليه اسم «العقل الباطن» الذي يعني من وجهة نظر نفسية بحتة أن «العقل الباطن» كامن «خارج نطاق الوعي».
وكما يذكر العالم النفسي السويسري الشهير كارل يونج (1875 ـ 1961) يعد العقل الباطن المخزن الخفي البديل لخبرات الفرد والمعلومات؛ لأن العقل الواعي ليس لديه القدرة أن يختزنها جميعا.
ومن ثمَّ، صار للعقل الباطن حضور قوي، وأهمية كبرى في الطب النفسي الحديث؛ لأنه ركيزة أسس المساعدة الذاتية (أو مساعدة الفرد نفسه بنفسه بدون الاعتماد على الآخرين) Self-Help. وقد استغل علماء الطب النفسي قوة العقل الباطن لمساعدة وشفاء العديد من الحالات المستعصية، وحالات اليأس والاكتئاب؛ فاستخداماته تتشابه والتنويم المغناطيسي، مع الفارق. فالتنويم المغناطيسي أساسه الوهم والاستحواذ، أما قدرة العقل الباطن فهي قائمة على التخييل والإنجاز. وقد ساعد اللجوء إلى قوة العقل الباطن في استحداث تقنيات نفسية حديثة، مثل الإيحاء الذاتي، والتوكيدات، اللذين من شأنهما تسخير قوى العقل الباطن للتأثير في حياة الشخص؛ وفي النتائج المترتبة على أفعاله؛ وفي علاج العديد من الأمراض المستعصية التي عجزت الأدوية عن شفائها.
ولقد تنبه الكاتب الأمريكي جوزيف ميرفي (1898-1981) إلى قدرة العقل الباطن على تغيير الجوانب المظلمة في حياة المرء، وعلى تبديل حياته للأفضل. وجوزيف ميرفي واعظ ديني أيرلندي الأصل، دعى إلى منهاج وفكر ديني جديد. ومن الجدير بالذكر أنه بعد هجرته للولايات المتحدة كان يمارس مهنة الصيدلة بجانب الوعظ الديني. ولما أراد الاستزادة والتفقه أكثر في الفلسفة الدينية، سافر للهند، وتعلم الفلسفة الهندوسية.
وأثناء الحرب العالمية الثانية، تم ضمه للجيش بوصفه صيدلانيا، ووضعوه في قسم الإمدادات الطبية. وكان لتجربة الحرب أثر بالغ فيه، لما شهده من حوادث ومآس أشعلت مجددا رغبته في الوعظ والتجديد في الخطاب الديني. وبعد انتهاء الحرب، تردد على العديد من الجامعات، وسجل نفسه في دورات أتاحت له أن يجوب دولا مختلفة، خاصة دول شرق آسيا، التي تعلم منها الكثير من أسس الفلسفة والحكمة، بالإضافة إلى حصوله على درجة الدكتوراه في الطب النفسي من جامعة جنوب كاليفورنيا. وبعد أن اطمأن لقدرته على نفع البشرية؛ لما له من مخزون معلومات وافر في الجانب الديني، والفلسفي، والنفسي، بالإضافة إلى خبرته الواسعة في شؤون البشر والحالات الإنسانية، قرر ميرفي أن ينشر أفكاره في شكل كتب، كلماتها لا تسير في إطار الوعظ الديني التقليدي، بل تطرح أفكارا تعلم الإنسان أن يساعد نفسه بنفسه؛ لتخطي أزمات ومآسي الحياة.
ومن أهم وأشهر الكتب التي ألفها في هذا السياق كتاب «قوة العقل الباطن» The Power of your Subconscious Mind عام 1963، الذي يعتبر باكورة الكتب المصنفة من أفضل الكتب ذات المبيعات الضخمة، والذي كان الإقبال عليه عالميا وليس محليا فقط، حتى وقتنا هذا. وفي هذا الكتاب يؤكد ميرفي أن لدى كل فرد قدرة هائلة على تحقيق المستحيل، عند إخراج القوة الكامنة في العقل الباطن القادرة على تحويل التصرفات الكامنة في اللاوعي – العقل الباطن – إلى أفكار إيجابية تضع الفرد على الطريق الصحيح لتحقيق أهدافه. وللاستفادة من قدرات العقل الباطن، نصح ميرفي بوجوب استخدام الأفكار والأوهام الصحية ـ أي أحلام اليقظة ـ لخدمة تحقيق أهداف بعيدة المنال. ما يعني وجوب وضع ملامح حياتنا المستقبلية، وأن نلح على أطرها في شكل أحلام يقظة متكررة، سوف تدل العقل الواعي على الطريقة التي يحقق بها تلك الأحلام. وإذا لم يستطع الفرد تحديد الشكل النهائي للمستقبل، لوجود خيارات عدة، يمكن تصفية الذهن بالنوم ليلة كاملة حتى يأخذ العقل الباطن الفرصة للتفكير في الخيار المناسب لقدراتنا. أما أهم خطوة يجب التنبه لها، فوجوب تمني الخير للآخرين؛ لأنه لحتمية عدم شغل البال بأفكار أنانية، أو حقودة، أو آثمة؛ لأن الحقد على ما يمتلكه الآخرون أو يحققه من إنجازات من شأنه شلّ القدرات الابتكارية، وتركيز الأفكار على رغبات انتقامية وتدميرية. وقد نُصَاب أحيانا بالدهشة عندما نعلم ارتكاب شخص مرموق لجريمة أو فعل فاضح، أو سعيه لتدمير من هم أضعف منه، ما يفضي به للوقوع في براثن القانون أو التنكيل به علانية. وقد يفضي أيضا الحقد للإصابة بأمراض نفسية تنهش في ذاتهم وتقضّ منامهم وتجعلهم يكرهون أنفسهم.
ويمكن التأكد من القدرة السحرية للعقل الباطن، بالنظر إلى قصص نجاح آخرين تمنوا المستحيل وحققوه. فكم من معدم تمنى أن يصير مليونيرا شهيرا، وخير شاهد قصة حياة الفرنسي الفقير المعدم «لوي فيتون» الذي صار أشهر مصممي الأكسسوارات عالميا حتى الآن. وهناك أيضا ضعفاء تمنَّوا القوة والهيبة، مثل الطفل الافريقي الأمريكي الضعيف كاسيوس كلاي الذي صار الملاكم العالمي محمد علي كلاي. ومن الأعمال الفنية التي استندت إلى فكرة هذا الكتاب فيلم «زكي شان» للممثل المصري «أحمد حلمي». الإنسان في حد ذاته كنز، لكنه كنز دفين، لا يمكن لأيَ كان الوصول له لما عليه من طلاسم لا يمكن حل شيفرتها إلا صاحب الكنز نفسه. فهل أعددت نفسك لاكتشاف كنزك الدفين؟ أم ستقضي حياتك في التحسر على ما لم تستطع إدراكه؟