لو اعتبرنا أن رحلة الفنان تشابه درجات القطار، فإن التصنيف الدقيق لهادي الجيار يضعه في مصاف الممثلين الكبار، وركاب الدرجة الأولى الممتازة، لكن ثمة مفارقة عجيبة في حياته الفنية جعلته قليل الفرص والحظ في مسألة النجومية المُطلقة، التي تظل حُلم كل فنان مهما أجاد في الأدوار الثانوية، ومهما حصل على شهادات مُعتبره من جمهوره العريض على امتداد مصر المحروسة، وعواصم العالم العربي قاطبة، ذلك أن النجومية في بعض الأحيان تكون هي المقياس لنجاح الفنان وتألقه، وهي المغالطة الكبرى، التي يتم بموجبها التقييم العام للممثل، فيتبدد جهده ويُحبط نشاطه أمام المعيار الخاطئ للقيمة والتقييم.
في بداية مشواره الفني في سبعينيات القرن الماضي، ظهر الوجه الجديد هادي الجيار خريج المعهد العالي للفنون المسرحية، في عملين فارقين، هما المسلسل التلفزيوني «فرصة العمر» مع الفنان محمد صبحي، في دور صديقة الثري «ممتاز» والمسرحية التي كانت فتحاً فنياً عظيماً على كل من شاركوا فيها «مدرسة المشاغبين» وخلال هذين العملين قدّم هادي كل ما في وسعه ليكون على المستوى المطلوب، حيث اجتهد كثيراً بجانب محمد صبحي، الذي جسد شخصية علي بيه مظهر، بشكل كوميدي لافت، واستطاع بدوره أن يشغل حيزاً واسعاً في ذاكرة المشاهد، إبان سطوة الدراما التلفزيونية وتأثيرها الكبير في المحيط العائلي، وقد نال الجيار من الاهتمام الجماهيري قدراً وفيراً، فبدأ في الانتشار والصعود بشكل تدريجي، وفي «مدرسة المشاغبين» تأكدت موهبته وصار نداً لبقية الأبطال يونس شلبي وسعيد صالح وأحمد زكي وعادل إمام.
والغريب أن السينما كانت أول من احتفى بموهبة الاكتشاف المسرحي الجديد، فمنحته فرصا أكبر ليُصبح شريكاً حقيقياً في العديد من البطولات، لكن ما حدث جاء على عكس المتوقع، إذ ساهم هادي الجيار في صناعة النجومية للكثير من المتطلعين إليها، بينما ظل هو في مربع الدور الثاني، يعتني بالتمثيل أكثر ما يعتني بالترتيب في الأدوار، ولما كان غير مهتم بهذه الأبجدية التي تتحدد بموجبها حيثية الفنان وموقعه بين زملائه، فقد تجاوزته أدوار البطولة وبات مسجوناً في الأدوار الثانوية، رغم امتلاكه مقومات البطل الأول كافة، من وسامة وموهبة وكاريزما وثقافة أكاديمية كونه دارساً لعلوم المسرح ومُلماً بها.
لقد بدأت إسهاماته السينمائية، كما هو معتاد بأدوار قيمة في بعض الأفلام الروائية القصيرة كفيلم «السايس ونجع العجايب» ولكنه ما لبث أن قدّم أدواراً محورية في أفلام روائية طويلة كفيلم «الغيبوبة» و«من أطلق هذه الرصاصة» و«احترس من عصابة النساء» و«مقص عم قنديل» و«كل شيء قبل أن ينتهي العُمر» و«عندما تُشرق الأحزان» و«إنقاذ ما يمكن إنقاذه» و«لمن تُشرق الشمس» و«انتهى التحقيق» و«سري جداً» و«ابن مين في المجتمع» و«عذراء ولكن» وكلها أعمال تناولت مشكلات وقضايا اجتماعية بأساليب مختلفة ورؤى متباينة، ولو أن هذه الأفلام أخذت حقها من التقييم النقدي، لكان هادي الجيار قد حصل هو أيضاً على حقوقه المُكتسبة كافة، كممثل ونجم كبير، لكن ما أتت به الرياح لم تشتهه السُفن، فبقي الوضع على ما هو عليه خاضعا للظروف، ولعبة الحظ التي لا تفرق بين الغث والسمين.
لقد حاول الفنان الراحل أن يعوض ما فاته خلال العشرين سنة الأخيرة من حياته، بالبحث عن فرص إضافية في المسرح والتلفزيون والإذاعة، فقدّم ما أتيح له تقديمه من أداور وشخصيات بمقاييس الجودة والإفادة والنظر للقيمة والمحتوى نفسها، فكانت أعماله الدرامية على الشاشة الصغيرة التي رفعت كثيراً من أسهمه وأعادت اكتشافه مجدداً، سيدنا السيد ـ سلسال الدم ـ الإمام محمد عبده ـ سوق العصر ـ الراية البيضاء ـ بين القصرين ـ قصر الشوق ـ وحلقت الطيور نحو الشرق ـ الوجه الآخر ـ الخط الساخن ـ فيه حاجه غلط منشية البكري ـ ولد الغلابة، وفي الإذاعة تميزت اختياراته في عدد مهم من المسلسلات، «كعصفور الحب الوردي والقاهرة كامل العدد وعريس رغم أنفه وزمن العطش والمُهرة والخيال» ويعد هذا الرصيد الإذاعي رصيداً استثنائياً، حيث توافرت فيه عناصر الأداء التمثيلي المؤثرة والدالة على خبرة الممثل ووعيه وثقافته. غير أن أعماله المسرحية التي أنجزها على مدار الرحلة الطويلة، اتسم أغلبها بالتميز والإيجابية، فمنها ما جاء مُبكراً كـ»مسرحية القاهرة في ألف عام» التي قُدمت في عام 1969 وتناولت حقبا مهمة بتواريخها وأحداثها، وكذلك مسرحية «السفيرة عزيزة» و«أحلام ياسمين» و«أولادنا في لندن» و«لما قالوا ده ولد» و«قصة الحي الغربي» وبالقطع أضيفت لرصيده وأرشيفه كمحطات رئيسية في مشواره الطويل العسير.
رحل الفنان هادي الجيار عن عمر ناهز الحادي والسبعين من العمر تاركاً الصوت والصورة والصدى لموهبة كبرى أخذت أقل من حقها بكثير.