ماذا يجمع مسلسل «رأفت الهجان» ومسلسل «24» وسلسلة أفلام «جيمس بوند» وكذلك سلسلة أفلام «بورن»؟ إنها جميعا أعمال سينمائية أو تلفزيونية عن عالم الجاسوسية، وشهيرة جدا، وجعلت من ممثليها نجوما سينمائيين. وهذا ليس ظاهرة غريبة، حيث يمثل عالم الجاسوسية مادة مهمة للسينما العالمية، بسبب تركيز وسائل الإعلام العالمية عليه، حيث ما تزال فضائح روزنبرغ وكيم فيلبي، تدوي في الإعلام حتى الآن، بالإضافة إلى أخبار أنشطة التجسس الخطيرة في الوقت الحاضر.
ومما زاد من إثارة عالم الجاسوسية كونه عالما غامضا بالنسبة للمشاهد العادي، فعلى عكس عالم الإجرام، الذي قد لا يكون بعيدا عن حياة الشخص العادي أحيانا، فإن عالم الجاسوسية بعيدا جدا عنه، ومن الصعوبة بمكان أن يلتقي الإنسان العادي بشخص يعرّف نفسه كعميل لجهاز مخابرات.
ويعطي هذا الغموض حرية واسعة لمؤلفي قصص الجاسوسية في كتابة ما يحلو لهم. وإذا اعتقد المرء أن الهوة بين الحقيقة والأدب أو السينما في مجال عالم الإجرام كبيرة، فإن هذه الهوة أكبر بكثير في عالم الجاسوسية، على الرغم من ادعاء بعض الكتّاب أن مؤلفاتهم مقتبسة من أحداث حقيقية، أو أنها تنبأت بأحداث قد حدثت فعلا.
شهدت بداية القرن العشرين ظهور أدب الجاسوسية بقوة، متوافقا مع تزايد التوتر السياسي والعسكري بين القوى العظمى آنذاك، ما أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى، وبروز أجهزة المخابرات الحديثة بشكل واضح، واتساع نطاق عملها ليشمل جميع أنحاء العالم. وتنتمي روايات أدب الجاسوسية إلى ما يسمى بأدب المغامرات، مثل الروايات البوليسية. ولا يرقى هذا النوع من الأدب إلى أعلى المستويات في عالم الأدب العالمي.
تثير روايات وأفلام الجاسوسية شعورا غريبا لدى المشاهدين، فعلى الرغم من كون العملاء لا يختلفون عن رجال العصابات في قسوتهم وأساليبهم، يظهرهم صانعو الفيلم الأشخاص الصالحين دائما. ويختلف رجال المخابرات في السينما عن رجال العصابات، حيث أنهم لا يخشون الشرطة، وهم فوق كل قانون ومبدأ أخلاقي، وأن الخداع والعنف بالنسبة لهم أساليب مقبولة جدا. ومهما بلغت درجة اللامنطق في الرواية أو الفيلم، فإنها تثير لدى المشاهد شعورا بالزهو والانتصار، وكأن ما يشاهده أو يقرأه، انتصار حقيقي له شخصيا ولبلده. وعلى الرغم من كون الكثير منها غير قابل للتصديق، فإنها خير دعاية لأجهزة المخابرات والحكومات التي تديرها.
نشرت أول رواية شهيرة عن عالم الجاسوسية عام 1901 للكاتب البريطاني رديارد كبلنغ، بعنوان «كيم» ودارت أحداثها حول النشاط الاستخباراتي الروسي في الهند، التي كانت تحت الاحتلال البريطاني آنذاك. وشجع إعجاب الجمهور الواضح بهذا النوع من الأدب، الكثير من المؤلفين المشهورين للتطرق إلى عالم الجاسوسية لتنويع مواضيعهم، والاستفادة من أحداث أثارت الرأي العام ولكسب أعداد أكبر من القراء مثل آرثر كونان دويل، الذي أدخل شخصية «شرلوك هولمز» في مجال مكافحة النشاط التجسسي الألماني عن طريق ثلاث روايات، وكذلك أجاثا كريستي وغيرهما. ولكن أغلب مؤلفي روايات الجاسوسية كانوا متخصصين في هذا النوع، ولم يخرجوا عنه إلا نادرا، ولذلك فإنهم لا يعتبرون أدباء كبارا مهما بلغت درجة شهرتهم.
تطور أدب الجاسوسية في عشرينيات القرن العشرين بسرعة، وأخذت أهم مميزاته الحالية تتجلى في تلك الفترة، حيث لم يكن أشهر الأدباء بريطانيين فقط، بل كذلك كانوا موظفين سابقين في أجهزة المخابرات البريطانية، كما انقسم هذا النوع من الأدب إلى نوعين رئيسيين، كان الأول محاولة لطرح الرواية بشكل منطقي بعض الشيء، وكان أشهر مؤلفي هذا النوع الكاتب البريطاني سومرست موم وأليكساندر ولسن اللذين كانا في الوقت نفسه، موظفين في المخابرات البريطانية. أما النوع الثاني، فقد كان عن عميل مخابرات أشبه بالبطل الأسطوري، وكان من أوائل مشاهير مؤلفي هذا النوع ليزلي تشارترليس وأيان فليمنغ (الموظف السابق في المخابرات البحرية البريطانية والمدير السابق لمكتب وكالة رويترز في موسكو) الذي قدم شخصية «جيمس بوند» الخيالية، مع الأخذ بنظر الاعتبار، أنه ليس شخصية أصلية تماما، حيث تم اقتباسها من عدة شخصيات سابقة، لاسيما شخصية «جوني فيدورا» الخيالية. ومع ذلك فإن قراءة دقيقة لهذين النوعين من أدب الجاسوسية يقودنا إلى الاعتقاد أن كليهما يفتقد إلى المنطق، ولكن بدرجات متفاوتة.
من الممكن القول إن بداية الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والعالم الغربي كان مادة دسمة لأدب الجاسوسية، ما سبب انطلاقا واسعا له في جميع أنحاء العالم وظهرت شخصيات خيالية ترسخت في خيال القراء والمشاهدين مثل «جيمس بوند» الذي ظهر للمرة الأولى عام 1953 في رواية «كازينو رويال». وقد تكون شخصية «جيمس بوند» مثالا بارزا لشخصية رجل المخابرات الأسطوري في أدب الجاسوسية، فلا حدود لقابلياته الجسدية والعلمية، وهو الشاب الرياضي والوطني، الذي لا يعرف الخوف أو الفشل. ولسبب ما نرى النساء ينجذبن إليه طوال الوقت، لاسيما نساء الجانب المعادي لبريطانيا. ويمتاز هذا النوع من الشخصيات الخيالية بأنها أشهر من مؤلفيها، ولاقت رواجا هائلا في عالم السينما.
حاول بعض الكتاب أن يغيروا من طريقة كتابة أدب الجاسوسية، لرفع مستواه ويصبح من الأعمال الأدبية الكبيرة، ومن هؤلاء غراهام غرين، الذي رشح لجائزة نوبل لعامي 1966 و1967. ولكن الأشهر في هذا المجال على الإطلاق كان جون لكاريه. لم يكن جون لكاريه كاتبا عاديا لروايات الجاسوسية، حيث اعتبرت رواياته أعمالا أدبية حقيقية، ومن أفضل ما كتب باللغة الإنكليزية بعد الحرب العالمية الثانية. وكان من أسباب شهرته مواظبته على العمل على مدى ستة عقود، نشر خلالها خمسة وعشرين رواية، ابتداء من عام 1961 عندما نشر رواية «دعوة للموتى» وانتهاء بآخرها عام 2019. وكان ماهرا في اختيار مواضيعه، حيث تغيرت بتغير الأوضاع السياسية العالمية، فبدأ بالحرب الباردة التي كانت تدور بين الاتحاد السوفييتي والعالم الغربي، حتى أنه تناول أزمة الشرق الأوسط في إحدى رواياته. وبعد انتهاء الحرب الباردة تطرق إلى أشهر المواضيع العالمية، التي كانت تشغل الصحافة. ولم يكن أبطال رواياته مثل «جيمس بوند» بل كانوا أشخاصا عاديين نرى أمثالهم كل يوم، فهم يحبون ويكرهون ويخافون ويخونون، بل إنهم يتساءلون أحيانا، إذا كان ما يفعلونه أخلاقيا. ونجد هؤلاء الجواسيس أحيانا يفقدون الثقة برؤسائهم أو ببعضهم بعضا. ولم تعتمد شخصياته على الأجهزة الإلكترونية إلا نادرا، ما جعل الرواية تتمحور حول الشخصيات ومحيطها. وأعطى كل هذا، بالإضافة إلى دراسة جون لكاريه الجيدة لمواضيعه مسبقا، انطباعا واقعيا لأحداث رواياته. وكان بطله الأكثر ظهورا، جورج سمايلي، قصيرا وبدينا ودميما، ويرتدي النظارات، ومتزوجا من امرأة غير مخلصة له وتهينه أمام الجميع تدعى «آن» ومن الجدير بالذكر أن زوجة الكاتب جون لكاريه نفسها كانت تدعى آن كذلك، ولاقت رواياته نجاحا كبيرا، وتحول بعضها إلى أفلام سينمائية شهيرة، حتى رشح أحدها لثلاث جوائز أوسكار في الولايات المتحدة الأمريكية.
ولد جون لكاريه عام 1931 باسم دَيفيد جون مور كورنويل لعائلة عانت من تقلبات كبيرة في أوضاعها المالية، حيث كان والده محتالا، وكانت له علاقة بمشاهير رجال العصابات في لندن. وانتهى به المطاف في السجن بسبب احتياله على إحدى شركات التأمين، ولكنه حرص على إتاحة الفرصة لابنه للحصول على أفضل فرص التعليم.
ولذلك، أدخله أفضل المدارس في بريطانيا.. أما والدته، فقد هجرت العائلة من أجل عشيقها عندما كان الابن في الخامسة من عمره. وكان لكل ذلك تأثير بالغ على الابن، حيث لم يتخلص من التبعات النفسية لنشأته طوال حياته. وبعد أن أصبح جون لكاريه كاتبا شهيرا وثريا، قام الوالد بتغيير اسمه إلى رون لكاريه، وكان يطالبه بالمال بشكل دائم حتى أنه هدده بمقاضاته. وعند وفاة الوالد لم يحضر جون لكاريه الجنازة، على الرغم من دفعه تكاليفها. ولم يحاول على الإطلاق إخفاء مشاكله العائلية، بل استغلها في تسويق أعماله واسمه. وذكر أنه لم يعرف المرأة بسبب والدته. ولذلك، فإن المرأة في رواياته الأولى كانت دائما غريبة الأطوار وباردة وخائنة، إلا أنه قام بإصلاح ذلك تدريجيا، ربما لتجنب إزعاج القراء.
ترك جون لكاريه المدرسة في السادسة عشرة من عمره، وتوجه إلى سويسرا لينضم إلى جامعة بيرن. وهناك أقنعه أحد الدبلوماسيين بالانضمام إلى المخابرات البريطانية، حيث مكنته إجادته للغة الألمانية من التحقيق مع الهاربين من الدول الأوروبية الشيوعية. وبعد ذلك، انضم إلى جامعة أوكسفورد كطالب من الناحية الرسمية، وجاسوس على الطلاب ذوي الميول اليسارية من الناحية العملية. وبعد انتهاء دراسته عمل مدرسا للغتين الألمانية والفرنسية في مدرسة أيتون Eton الشهيرة، قبل أن يعود إلى العمل في جهاز التجسس الداخلي MI5 في بريطانيا. وانتقل بعدها إلى جهاز التجسس الخارجي MI6 عام 1960 وعمل من الناحية الرسمية سكرتيرا ثان في السفارة البريطانية في بون، العاصمة الألمانية آنذاك. وبذلك كان جون لكاريه الكاتب الوحيد الذي عمل لدى كلا الجهازين. وقام بنشر أولى رواياته عام 1961 بعنوان «دعوة للموتى» ولكنه اضطر أن يقوم بذلك باسم مستعار حيث كان ممنوعا على من في مركزه نشر كتب بأسمائهم، ولذلك، طلب منه الناشر اختيار اسم مستعار، فاختار الكاتب اسم جون لكاريه، بدون أن يفصح عن سبب اختياره لهذا الاسم. واستمر في الكتابة حتى لاقت ثالث رواية (1963) له «الجاسوس القادم من البرد» نجاحا عالميا لافتا للنظر. ولكن فضيحة هروب موظف المخابرات البريطانية البارز كيم فيلبي إلى الاتحاد السوفييتي عام 1963 غير كل شيء، حيث كشف «فيلبي» للمخابرات السوفييتية هوية لكاريه الحقيقية، فترك لكاريه عام 1964 وظيفته الحكومية في المخابرات، بعد ستة عشر عاما من انضمامه، إليها ليتفرغ للكتابة، ولكنه لم يترك اسم جون لكاريه، بل تبناه حتى في حياته الخاصة، وبدأت مسيرته الأدبية الشهيرة. وتتابعت رواياته وأصبح بعضها من أكثر الروايات مبيعا في بريطانيا وأشهرها «سمكري خياط جندي جاسوس» Tinker Tailor Soldier Spy (1974) التي اقتبست بعض تفاصيلها من فضيحة الجاسوس كيم فيلبي، «التلميذ المحترم» (1977) «رجال سمايلي» (1979) و«جاسوس مثالي» A perfect Spy (1986) التي كان جزء منها عن حياته الشخصية، حيث كانت إحدى شخصياتها تمثل والده المحتال.
احتقر جون لكاريه شخصية «جيمس بوند» فقد اعتبرها شخصية رجل عصابات دولي. وليس هذا غريبا حيث أن شخصياته لم تعتمد على العنف، بل الذكاء. وكان تأثير كتاباته على الثقافة العامة في بريطانيا قويا، إلى درجة أنه ابتدع كلمات دخلت عالم الجاسوسية الحقيقي مثل mole التي تعني الجاسوس المزروع داخل صفوف العدو، لفترة طويلة مزودا المخابرات بالمعلومات بشكل مستمر، وكلمة Honeytrap التي تعني الإيقاع بشخص ما عن طريق الإغواء الجنسي، وكلمة Circus التي تعني المخابرات البريطانية، وكلمة Joe التي تعني عميل المخابرات البريطانية.
كره جون لكاريه الحفلات واحتفالات تقديم الكتب الجديدة والجوائز، وعندما تم ترشيحه لجائزة البوكر طلب سحب الترشيح. وقد يكون السبب نرجسيته، حيث أنه ربما كان يريد أن يكون الوحيد في كل حدث، ب\دون أن يحيطه أي منافس. وانتقد السياسة الغربية بصراحة، بالإضافة إلى أساليب التجسس والتحقيق في وقت الحاضر، ودخل في خلاف شهير مع الكاتب البريطاني ـ الأمريكي سلمان رشدي.
قد يعتقد القارئ كون المؤلف عضوا سابقا أو حاليا في أحد أجهزة المخابرات دليلا على دقة وصف الكاتب لعالم المخابرات، ولكن هذا قد يعني أيضا أن هذه الأعمال الأدبية، حصلت على موافقة أجهزة المخابرات مسبقا، حيث أن العلاقة بتلك الأجهزة لا تنتهي بقرار استقالة بسيط. ولذلك، فإنها على الأغلب بعيدة جدا عن الواقع. وادعى بعض رجال المخابرات أن جون لكاريه قد أعطى المخابرات سمعة سيئة، وأنهم لا يريدون أشخاصا مشابهين لشخصيات رواياته أن يتقدموا للعمل في أجهزة المخابرات. ما يزال بعض موظفي جهاز المخابرات البريطانية يقومون بنشر الروايات حول عالم الجاسوسية، وأبرز هؤلاء الموظفين ستيللا ريمنغتن، التي ترأست جهاز المخابرات الداخلية في بريطانيا. وليست رواياتها مختلفة عن بقية الكتاب لهذا النوع من الأدب.