بقلم سهيل كيوان
لا أحب الإسفلت، أشعر بأنه عدو مستتر بأقنعة مختلفة، فهو يخفي تحته الكثير، في بعض الأمكنة يخفي مقابر أو أجزاء منها ليحل في قناع موقف للسيارات، أو كشارعٍ يتسع عاما بعد عام، قد يخفي ملامح بلدة كانت مثل عش يمامة في حضن سفحٍ ما.
في بعض قرانا حلَّ الإسفلت مكان الساحات التي كانت مبلطة ببلاط قديم عريق، فقد ظن بعض رؤساء بلدياتنا الموقرين أن الإسفلت علامة للتقدّم والرّقي.
وكان لكثير من الأسفلت دور في نهب الأرض، فالتهم الكثير منها بلا شبع، مثل شارع عابر إسرائيل الذي ربض على صدر الكثير من أراضي المثلث، وغيره من شوارع في طول البلاد وعرضها، فالسيارات تزداد والإسفلت يتمدّد.
كانت إحدى ألعابنا في الطفولة عَدّ السيارات المارّة على الشارع العابر في وسط سهل القرية، الذي يوصل السّاحل بمرتفعات ترتقي حتى تلامس السماء، عبر بحر من أشجار التين ذي الابتسامات المعسّلة، والزيتون المتجهّم المعمِّر، مثل رَبِّ أسرة مسؤول عن المزروعات الصغيرة مثل القثائيات والقرنيات وعبّاد الشمس.
واحدٌ يعدُّ السيارات الآتية من الغرب، وآخر يعدُّ تلك الآتية من الشرق، ومن يصل إلى ثلاثين أو خمسين في العدد، يكون قد ربح اللعبة، وهذا كان يستغرق وقتا طويلا.
معظمها سيارات نقل وشحن، من الماركات الأولى، دودج، فورد، أستودوبيكر وسوبر وايت، ويللز، جيب، ولايلاند ثم سكانيا، وسيارات جيش، وخصوصية، وحافلات سياحية عليها صورة قطف عنب هائل يحمله رجلان على أكتافهما يرتديان ملابس قدماء الكنعانيين، لكل منهما لحية ممتدة حتى سرّته تشبه لحية هرتسل، في إشارة إلى «أرض الميعاد» وخيراتها.
نسمع هدير محركاتها من مسافة بعيدة قبل رؤيتها، خصوصا وهي تجاهد في صعود المنحدر الذي نسميه (اللّيات) آتيةمن جهة عكا، ثم نتابعها حتى تغيب قبل تلاشي هديرها الذي يغدو عواء بعيدا في اتجاه الرامة ثم جبال صفد.
يطول انتظار السيارة التالية، خصوصا في ساعات الظهيرة، فنتصارع ونستلقي في وسط الشارع دون إحساس بالخطر، نرسم على الشارع ممرات بعرض خطوة بحجارة الحِثّان أو الحوّارة، فيها دوّارات ومحطات حافلات ووقود، نركض بينها ممثلين أدوار السائقين، واحد سائق حافلة، وآخر درّاجة نارية، وثالث ورابع وخامس سيارات خصوصية، وآخر شرطة أو سيارة جيش.
في الصباح تأتي حافلات آتية من الشرق، وتكون ممتلئة، لا مكان حتى لقطٍ بين أقدام الجالسين على المقاعد والواقفين في الممر، معظمهم من العمال، ولهذا كان اسمها «باصات العمّال» ونادرا ما تسافر نساء في الصباح الباكر، اثنتان فقط، مع كل واحدة منهما لجن ممتلئ بالزيتون المكبوس لبيعه في عكا أو حيفا، يساعدها المسافرون في رفعه، تنتشر رائحته في الحافلة، السّيدة لن تبقى واقفة أبدا، هناك حتما من يجلسها في مكانه.
كثيرا ما كانت تتحرك الحافلة قبل صعود جميع المنتظرين، وهذا يُغضبُ من لم يفلحوا في الدخول لأن انتظارهم قد يطول، وكان بعضهم يتّخذها ذريعة للعودة إلى البيت، للتهرّب من يوم عمل شاق.
اشتهرت حكاية في البلدة عن عريس جديد، كان يصل المحطة ثم يعود إلى البيت مرة بحجّة أن حافلة العمال قد فاتته، ومرة لأن الحافلة كانت ممتلئة ولم تستوعب أكثر، ومرة لأنه نسي زوادته، أو نسي أجرة الطريق، وذلك كي يعود إلى حضن عروسه الطازجة لا يطيق فراقها، وكان والده الفلاح يراقب تصرفّه على مضض، إلى أن فاجأه في يوم ما وأوصله إلى المحطة وأمّن له الصعود إلى الحافلة وسلّمه إلى السائق بيده.
ويشهد عمال بلدتنا أنهم كانوا يحترمون الوقوف بالدور، فمن يصل المحطة أولا يصعد أولا، وكانوا بهذا يتفوّقون على قرويين آخرين يتقاتلون على الدور، لن أذكر أسماء قراهم.
في الخمسينيات يتحدثون عن إضراب عمال قريتنا وامتناعهم عن السفر في باصات شركة (إيجد) حتى تحضر لهم الشركة حافلة إضافية، وقد تواصل الإضراب عدة أيام، حتى اضطرت الشركة تخصيص حافلة إضافية تنطلق من القرية.
كنا نعرف سيارات قريتنا مجد الكروم من بعيد، وحتى سيارات البعنة ودير الأسد والرامة، وسيارات أخرى أصحابها من يهود ميرون وصفد، تُعرف من شكلها وألوانها، ويُعرف سائقها قبل وصوله، هذا صاحب مطعم مقام عند نبع فراضية، وذاك تاجر جُملة من صفد يُدعى أبو هارون.
يفترض أن تكون مقاعد الركاب في سيارات القرويين مشغولة، فإذا كان مقعد إلى جانب السائق أو خلفه شاغرا وجب عليه التوقف لأخذ مسافرين، وإن لم يتوقف، فعليه أن يبرّر لماذا؟ خصوصا إذا كان هذا في رحلة العودة قبيل المساء من عكا وخليج حيفا، حيث تتوقف المواصلات العامة إلى المنطقة بعد المغيب بقليل، ومن تفوته الحافلة قد يطول انتظاره، حتى يشفق عليه سائق ما، فإذا يئس عاد إلى عكا القديمة ليبيت في أحد مساجدها، أو في الزاوية الشاذلية اليشرطية.
كثيرا ما كانت تتوقف سيارة بسبب عطل إلى جانب القرية، أو بسبب نفاد الوقود منها، وكان سائقها يلجأ إلى البيوت القريبة من الشارع طالبا العون، وهذا كان سببا في علاقات ودّية مع بعضهم، تطوّرت واستمرت لسنوات طويلة.
لم يعد إحصاء أعداد السيارات التي تمر ممكنا إلا بعدّاد إلكتروني، إنه نهر لا ينقطع، لا في الليل ولا في النهار، اتّسعت أشداق الإسفلت على عرض عشرات الأمتار من الاتجاهين، بينها جُزر وجدران واقية من الإسمنت المسلّح، ووراءها سكة حديد أخذت هي الأخرى حصتها من الأرض، وفي الجانبين قنوات لتصريف مياه الأمطار، وفي الصيف تمتلئ بالمياه العادمة ويصبح البعوض فيها بحجم الفراش، وشارعان آخران ضيّقان للخدمة، تنزلق مياه الأمطار قبل ارتواء الأشجار والمزروعات البعلية وتذهب إلى البحر، ولهذا تقلّص حجم ثمار التين وقضى وجف معظمه، ولم يبق ذكر للقثائيات والقرنيات، حتى نقيق الضفادع تلاشى.
أفعى الإسفلت التهمت التربة، وشرّدت الكثير من الزيتون المعمّر، فنُقل إلى دوّارات في شوارع المُدن البعيدة، قد تصادف واحدة منها في شارع ما في مستوطنة جديدة أو على دوار في حي جديد في مدينة بعيدة، تميّزها من بعيد، تدور حولها وتحاول التعرف عليها، من أين أتوا بك أيتها الغريبة؟ تبدو مذهولة وحزينة ومكتئبة.
جف الكثير مما تبقى منها في مكانه، كأنه مات قهرا، والقليل المتبقي يبدو مثل جيش مهزوم، أفراده ممزقون ومشوّهون وعاجزون.
أحيانا أحلم في زمن يستغني فيه البشر عن السيارات والشوارع والإسفلت والباطون، ويبدأون في استعادة ما اغتصبه هذا الوحش من تراب وما شوّهه من براءة.